إلى الفرار من قسوة التحدي، أما إخوانهم الذين كانوا يعيشون في الوادي المنخفض فقد آثروا مواجهة التحدي، الذي واجهتهم به الطبيعة والمناخ فغيروا بذلك شرائط حياتهم تغييراً تاماً، ونجحوا في إقامة أول مجتمع متحضر شهده التاريخ.
كذلك يورد المؤرخ الإنجليزي حالة الأسكيمو، الذين يعدون اليوم نموذجاً للجماعة الإنسانية التي لا تغير شرائط وجودها، لأن تحدي الطبيعة لها- وقد أربى على إمكانياتها وقواها- جمدها في شكل من أشكال الحياة الساكنة.
وبهذه الأمثلة يرينا توينبي كيف أن نقص التحدي أو زيادته وعنفه يؤثران بصورة واحدة على قوى التاريخ الإنساني.
ونحن يمكننا إلى حد ما أن نصوغ هذا الرأي الذي ذهب إليه المؤرخ صياغة جديدة في ضوء القرآن الكريم، لقد نستطيع- ما دمنا لم نصل بهذه الطريقة إلى تفسير واضح لمنشأ الحركة التي ولدت المجتمع الإسلامي وغايته التاريخية- أن نفسّر هذه الحركة بالعوامل النفسية التي حفزت القوة الروحية في هذا المجتمع، أعني شروط حركته عبر القرون.
والواقع أن القرآن قد وضع الضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف التي يتسنى له فيها أن يجيب على تحدٍّ روحي في أساسه.
فالوعيد هو الحد الأدنى الذي لا يوجد دونه جهد مؤثر، والوعد هو الحد الأعلى الذي يصبح الجهد من ورائه مستحيلاً، وذلك حين تطغى قساوة التحدي على القوة الروحية التي منحها الإنسان.
وبذلك نجد أن الضمير المسلم قد وضع بين حدي العمل المؤثر، وهما الحدان اللذان ينطبقاًن على مفهوم الآيتين الكريمتين: