للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فإذا ما صغنا الآن المشكلة بلغة علم النفس ننتهي إلى الملاحظة نفسها من طريق أخرى. فالفرد لكي يدخل في شبكة علاقات اجتماعية معينة ينبغي أن يجسد في ذاته واقعاً نفسياً معيناً، وهذا الواقع الذي يعد شرطاً لإقرار الفرد وقبوله داخل الحياة الاجتماعية يمد هو أيضاً جذوره في أعماق غيب ميتافيزيقي.

لقد قررنا من قبل أن وحدة المجتمع لا تتمثل في الفرد، ولكن في الفرد المشروط. ولقد عرف علم النفس التجريي- منذ التجارب التي أجراها بافلوف- الفعل المنعكس الشرطي، حين تناول الأشياء من الناحية الوظيفية لا من ناحية التحليل. ونحن نتناولها هنا من الناحية الاجتماعية. إن إدماج الفرد في شبكة اجتماعية عملية تنحية، وهو في الوقت ذاته عملية انتقاء. وتتم هذه العملية المزدوجة في الظروف المادية، أي في حالة المجتمع المنظم- بوساطة المدرسة- وذلك ما يسمى التربية.

أما إذا كان المجتمع في طريق التكوين فإن العملية تبدأ تلقائياً في الظروف النفسية الزمنية التي تتفق مع ما أطلقنا عليه من قبل: (الظرف الاستثنائي)، الذي يتوافق مع ظهور المجتمع والحضارة.

فجهاز الأفعال المنعكسة لدى رجل كالغزالي قد تكون في المدرسة، ولكنه لدى صحابي كأبي ذر الغفاري تكون تلقائياً.

فالاطراد النفسي في كلتا الحالتين واحد: إذ يجد الفرد نفسه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعة الاجتماعية، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية.

وذلك هو تكييف الفرد: فهو عملية تنحية تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي (كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر)، وهو عملية انتقاء أو إحساس، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً، طابع أخلاقي أو جمالي مثلاً.

<<  <   >  >>