مَنْ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ، وَلَوْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، فَلَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، أُجِيبُ بِأَنَّ الَّذِي نُسِخَ مِنْهُ لُبْسُ خَاتَمِ الذَّهَبِ أَوْ لُبْسُ الْخَاتَمِ الْمَنْقُوشِ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ لُبْسَ الْخَاتَمِ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ، خِلَافُ الْأَوْلَى ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّزَيُّنِ، وَالْأَلْيَقُ بِحَالِ الرِّجَالِ خِلَافُهُ أَيْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، فَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْجَوَازِ هِيَ الصَّارِفَةُ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْخَبَرِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ، وَيُحْمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّلْطَانِ مَنْ لَهُ سَلْطَنَةٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ عَلَيْهِ لَا السُّلْطَانُ الْأَكْبَرُ خَاصَّةً، وَالْمُرَادُ بِالْخَاتَمِ مَا يَخْتِمُ بِهِ فَيَكُونُ لُبْسُهُ عَبَثًا لِمَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ بِهِ وَأَمَّا مَنْ لَبِسَ الْخَاتَمَ الَّذِي لَا يُخْتَمُ بِهِ وَكَانَ مِنَ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ حَالُ مَنْ لَبِسَهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ صِفَةِ نَقْشِ خَوَاتِيمِ بَعْضِ مَنْ كَانَ يَلْبَسُ الْخَاتَمَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِصِفَةِ مَا يُخْتَمُ بِهِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِمَّنْ لَبِسَهُ أَنَّهُ مَا بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنِ الزِّينَةِ وَالْخَاتَمِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْعُمُومُ وَمِعْيَارَهُ الِاسْتِثْنَاءُ السَّابِقُ أَوْ مَا صَحَّ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ حَدِيثِ أَبِي رَيْحَانَةَ فَضَعَّفَهُ، وَقَالَ: سَأَلَ صَدَقَةُ بْنُ يَسَارٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: الْبَسِ الْخَاتَمَ وَأَخْبِرِ النَّاسَ أَنِّي قَدْ أَفْتَيْتُكَ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالتَّنْبِيهُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَقْشِ الْخَاتَمِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الْأَخْيَارِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ عَلِيٍّ: «لِلَّهِ الْمُلْكُ» وَنَقْشَ خَاتَمِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ: «الْعِزَّةُ لِلَّهِ» ، وَنَقْشَ خَاتَمِ النَّخَعِيِّ: «الثِّقَةُ بِاللَّهِ» ، وَنَقْشَ خَاتَمِ مَسْرُوقٍ: «بِسْمِ اللَّهِ» ، وَصَحَّ عَنِ الْحَسَنَيْنِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا بَأْسَ بِنَقْشِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَاتَمِ.
أَقُولُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ الْمُحْتَرَمُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَرَاهَتُهُ انْتَهَى. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَكْتُبَ الرَّجُلُ فِي خَاتَمِهِ حَسْبِيَ اللَّهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَمْ تَثْبُتْ عَنْهُ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ وَيَكُونُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ تَعَارَضَ فِيهِمَا الدَّلِيلَانِ، وَيُمْكِنُ تَأْخِيرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، قَالَ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ لِلْجُنُبِ وَنَحْوِهِ أَوِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْكَفِّ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَالْجَوَازَ حَيْثُ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِذَاتِهَا، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا يَعْرِضُ لِذَلِكَ، وَإِذَا جَازَ نَقْشُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَاتَمِ، فَبِالْأَوْلَى جَوَازُ نَقْشِ اسْمِ الشَّخْصِ وَأَبِيهِ قُلْتُ: هَذَا
لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ لِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَذَا أَخْرَجَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَقَشَ اسْمَهُ عَلَى خَاتَمِهِ، وَكَذَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: مِنْ شَأْنِ الْخُلَفَاءِ وَالْقُضَاةِ نَقْشُ أَسْمَائِهِمْ فِي خَوَاتِيمِهِمْ، أَقُولُ: وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
وَذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى مِثْقَالٍ، لِلْحَدِيثِ الْحَسَنِ بَلْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِلَابِسِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ، فَطَرَحَهُ. وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ قَالَ مِنْ وَرِقٍ، وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا. لَكِنْ رَجَّحَ الْآخَرُونَ الْجَوَازَ مِنْهُمُ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَإِنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ عَلَى التَّنْزِيهِ، عَلَى أَنَّ النَّوَوِيَّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ضَعَّفَهُ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ صَاحِبِ الْإِبَانَةِ كَرَاهَةَ الْخَاتَمِ الْمُتَّخَذِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ رَأَى خَاتَمًا مِنْ صُفْرٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَجِدُ رِيحَ الْأَصْنَامِ، فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْهِ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ. وَعَنِ الْمُتَوَلِّي لَا يُكْرَهُ وَاخْتَارَهُ فِيهِ وَصَحَّحَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ الْوَاهِبَةِ «اطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ كَانَ خَاتَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ، قَالَ: وَالْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ ضَعِيفٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَى تَضْعِيفِهِ بِأَنَّ لَهُ شَوَاهِدَ عِدَّةً إِنْ لَمْ تُرَقِّهِ إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ، لَمْ تَدَعْهُ يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحَسَنِ، أَقُولُ: وَيُحْمَلُ حَدِيثُ: «كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ حَدِيدٍ» ، وَقَوْلُهُ: «اطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» عَلَى مَا قَبْلَ النَّهْيِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ لَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي الطَّلَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ لُبْسُهُ، وَقَدْ صَرَّحَ قَاضِي خَانَ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَخَتَّمُ الرَّجُلُ إِلَّا بِالْفِضَّةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لَا يُتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ، فَلِلْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، وَأَمَّا التَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ فَلِأَنَّهُ خَاتَمُ أَهْلِ النَّارِ، وَكَذَا الصُّفْرُ.
(بَابُ مَا جَاءَ فِي تَخَتُّمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute