(بَابُ مَا جَاءَ فِي وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْوَفَاةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ الْمَوْتُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ مِنْ وَفَى بِالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى تَمَّ، أَيْ: تَمَّ أَجَلُهُ، قَالَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صُدَاعٍ عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، ثُمَّ اشْتَدَّ بِهِ، وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَذِنَّ لَهُ، وَكَانَتْ مُدَّةَ مَرَضِهِ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا، وَقِيلَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضُحًى مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي السَّنَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَقِيلَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ انْتَهَى، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى لِوُرُودِ إِشْكَالٍ سَيَأْتِي عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ نَوَاقِصَ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَبُعِثَ نَبِيًّا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقُبِضَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ عَلَى إِشْكَالٍ مَسْطُورٍ، وَهُوَ أَنَّ جُمْهُورَ أَرْبَابِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ وَفَاتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ عَلَى أَنَّ عَرَفَةَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَيَكُونُ غُرَّةُ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَتِ الشُّهُورُ الثَّلَاثُ الْمَاضِيَةُ يَعْنِي ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، أَوْ بَعْضٌ مِنْهَا ثَلَاثِينَ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنْهَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَحَلُّهُ أَنْ يُقَالَ يَحْتَمِلُ اخْتِلَافُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِوَاسِطَةِ مَانِعٍ مِنَ السَّحَابِ وَغَيْرِهِ، أَوْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ، فَيَكُونُ غُرَّةُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ وُقُوفُ عَرَفَةَ وَاقِعًا بِرُؤْيَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَمَّا رُجِعَ إِلَى الْمَدِينَةِ اعْتَبَرُوا التَّارِيخَ بِرُؤْيَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ الشُّهُورُ الثَّلَاثَةُ
كَوَامِلَ، فَيَكُونُ أَوَّلُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْهُ، هَذَا وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ ثَانِي الشَّهْرِ أَمْ ثَامِنُهُ أَمْ عَاشِرُهُ بَعْدَ قُدُومِ الْفِيلِ بِشَهْرٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السِّيَرِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تُوُفِّيَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَا فِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ مِنَ الشَّهْرِ، فَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ سَعْدٍ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ كَانَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، وَالذَّهَبِيُّ فِي الْعِبَرِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ زُبَيْرٍ فِي الْوَفَيَاتِ، وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي تَارِيخِهِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّمِيمِيُّ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَرَوَاهُ أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ أَيْضًا، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى سُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرِضَ لِاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْ صَفَرَ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مَرِضَ فِيهِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ أَنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يَحْيَى وَيُخَيَّرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مَا مِنْ نَبِيٍّ يُقْبَضُ إِلَّا يَرَى الثَّوَابَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَالْخُلْدَ، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ فَاخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: خُيِّرْتُ بَيْنَ أَنْ أَبْقَى حَتَّى أَرَى مَا يُفْتَحُ عَلَى أُمَّتِي وَبَيْنَ التَّعْجِيلِ فَاخْتَرْتُ التَّعْجِيلَ، وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا تُقْبَضُ نَفْسُهُ، ثُمَّ يَرَى الثَّوَابَ، ثُمَّ تُرَدُّ إِلَيْهِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ إِلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يَلْحَقَ، فَكُنْتُ قَدْ حَفِظْتُ ذَلِكَ، وَإِنِّي لِمُسْنِدُهُ إِلَى صَدْرِي فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى مَالَتْ عُنُقُهُ، فَقُلْتُ: قَضَى، قَالَتْ: فَعَرَفْتُ الَّذِي قَالَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى ارْتَفَعَ وَنَظَرَ، فَقَلْتُ إِذًا وَاللَّهِ لَا يَخْتَارُنَا، فَقَالَ مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى فِي الْجَنَّةِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُعْلِمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ، نُزُولُ سُورَةِ النَّصْرِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْبِلَادَ وَدَخَلَ فِي الدِّينِ أَفْوَاجٌ مِنَ الْعِبَادِ فَقَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُكَ وَانْتَهَى عَمَلُكَ فَتَهَيَّأْ لِلِقَاءٍ فِي دَارِ الْقَرَارِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِحُصُولِ مَا أُمِرْتُ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَعَرَفَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ الْوَدَاعُ، وَلِلدَّارِمِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ دَعَا فَاطِمَةَ، وَقَالَ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، فَبَكَتْ، قَالَ: لَا تَبْكِي ; فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لُحُوقًا بِي، فَضَحِكَتِ) . . . الْحَدِيثَ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute