بِأَشَدِّ مَا كَانَ قَطُّ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَ الْقُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ وَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَ قَبْلُ يَعْرِضُ مَرَّةً وَيَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ فَقَطْ، هَذَا وَلَمَّا خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ
عَامِي هَذَا، وَطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَجَمَعَ النَّاسَ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا، بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ فَمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ، بِالْجُحْفَةِ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، ثُمَّ حَضَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَوَصَّى بِأَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةَ مَكَثَ قَلِيلًا، وَفِي هَذَا الْمَرَضِ خَرَجَ كَمَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأْسِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ قَالَ كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ الرَّاوِي فَعَجِبْنَا، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ: يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ، زَادَ مُسْلِمٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ لَيَالٍ انْتَهَى، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَلَى مَرْتَبَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِ خَلَّتِهِ، وَحَقِّيَّةِ خِلَافَتِهِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاكَ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَيَاهُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تَحْتَ مَوْتِي، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَكَانَتِ الْحُمَّى تُصِيبُ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ لِذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْوَعْكُ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَوْ فَتْحٍ: الْحُمَّى، وَقِيلَ أَشَدُّهَا، وَقِيلَ إِرْعَادُهَا، انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ أَوْ فَتْحٍ أَيْ: فَتْحِ الْعَيْنِ سَهْوُ قَلَمٍ لِمُخَالَفَتِهِ كُتُبَ اللُّغَةِ، وَصَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَيْهِ سِقَاءٌ يَقْطُرُ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ قَالَ: أَهْرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْعِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ، فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. . . الْحَدِيثَ، وَلِهَذَا الْعَدَدِ خَاصِّيَّةٌ فِي دَفْعِ السِّحْرِ وَالسُّمِّ، وَفِي الْبُخَارِيِّ مَا زِلْتُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، وَالْأَبْهَرُ: عِرْقٌ مُسْتَبْطِنٌ بِالْقَلْبِ إِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يَرَوْنَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مَاتَ شَهِيدًا مِنَ السُّمِّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأُكْلَةُ بِالضَّمِّ وَأَخْطَأَ مَنْ فَتَحَ إِذْ لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا لُقْمَةً وَاحِدَةً، قُلْتُ: لَا وَجْهَ لِلتَّخْطِئَةِ فَإِنَّهَا أُورِدَتْ بِهَا الرِّوَايَةُ، وَهِيَ مُسْتَقِيمَةٌ بِحَسَبِ الدِّرَايَةِ إِذْ أَكْلُ اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ تُسَمَّى مَرَّةً مِنَ الْأَكْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا أَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ (وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَشَفَ السِّتَارَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهَا أَيْ: رَفَعَهَا (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فَخَبَرُ الْآخَرِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ (كَشَفَ السِّتَارَةَ) فَهُوَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ «آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى وَجْهِهِ حِينَ كَشَفَ السِّتَارَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِـ «آخِرُ» بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ زَمَانٍ فِي أَوَّلِ الْآخِرِ وَوَجْهُهُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنْ قَالَ مِيرَكُ: إِنَّهُ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ تَأَمَّلْ، وَلَا تَكْسَلْ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي (نَظَرْتُهَا) لِلنَّظْرَةِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ أَظُنُّهُ مُنْطَلِقٌ بِرَفْعِ (مُنْطَلِقٌ) ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمَنْصُوبَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الظَّنِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَقَوْلُهُ كَشَفَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَعْلُومِ حَالٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ بِتَقْدِيرِ «قَدْ» كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ بِدُونِهَا كَمَا جَوَّزَهُ آخَرُونَ فَانْدَفَعَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ التَّحْرِيرِ مَا قَالَهُ ابْنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute