الْأُخْرَى. (ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ) : وَهَذَا كَانَ فِي سَفَرٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِفْرٍ فَقَالَ: «أَمَعَكَ مَاءٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ، فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الْإِدَاوَةَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَامِيَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ. وَلَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ مِنْ تَحْتِ بَدَنِهِ. بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَالْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا نُونٌ، أَيْ جُبَّتِهِ، كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى الْبَدَنُ بِفَتْحَتَيْنِ، دِرْعٌ قَصِيرَةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ: كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفِي الْمُوَطَّأِ وَمُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ زِيَادَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَأَقْبَلْتُ مَعَهُ حَتَّى وَجَدَ النَّاسُ قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ; فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُتِمُّ صِلَاتَهُ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ النَّاسَ. وَفِي أُخْرَى: قَالَ الْمُغِيرَةُ: فَأَرَدْتُ تَأْخِيرَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ» . كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ الِانْتِفَاعُ بِثِيَابِ الْكُفْرِ حَتَّى يُتَحَقَّقُ نَجَاسَتُهَا ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْجُبَّةَ الرُّومِيَّةَ، وَلَمْ يَتَفَصَّلْ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ عَلَى أَنَّ الصُّوفَ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ ; لِأَنَّ الْجُبَّةَ كَانَتْ شَامِيَّةً وَكَانَتِ الشَّامُ إِذَا ذَاكَ دَارُ كُفْرٍ، وَمِنْهَا جَوَازُ لُبْسِ الصُّوفِ. وَكَرِهَ مَالِكٌ لُبْسَهُ لِمَنْ يَجِدُ غَيْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الشُّهْرَةِ بِالزُّهْدِ ; لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْعَمَلِ أَوْلَى، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَمْ يَنْحَصِرِ التَّوَاضُعُ فِي لُبْسِهِ بَلْ فِي الْقُطْنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ بِدُونِ ثَمَنِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قِيلَ فِيهِ: نَدْبُ اتِّخَاذِ ضَيِّقِ الْكَمِّ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْحَضَرِ ; لِأَنَّ أَكْمَامَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ وَاسِعَةً. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَحَرَّاهَا لِلسَّفَرِ، وَإِلَّا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَبِسَهَا لِلدِّفَاءِ مِنَ الْبَرْدِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ اتِّسَاعِ الْأَكْمَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَكْمَامَ جَمْعُ كُمٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جُمَعُ كُمَّةٍ، وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ، فَكَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ: مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ اتِّسَاعُ الْكُمَّينِ، انْتَهَى. وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذَا عَلَى السِّعَةِ الْمُفْرِطَةِ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ مُتَعَيَّنٌ، وَلِذَا قَالَ فِي النُّتَفِ مِنْ كُتِبِ أَئِمَّتِنَا: يُسْتَحَبُّ اتِّسَاعُ الْكُمِّ قَدْرَ شِبْرٍ. . .
(بَابُ مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute