الدِّينَ لَا يَتَغَيَّرُ كَالسَّوَادِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ، وَفِي شَرْحِ الزَّيْلَعِيِّ مِنْ عُلَمَائِنَا الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسَنُّ لُبْسُ السَّوَادِ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَقَدْ جَمَعَ السُّيُوطِيُّ جُزْءً فِي لُبْسِ السَّوَادِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ وَآثَارًا وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَنَّ تِلْكَ الْعِمَامَةَ وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ، وَهِيَ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ، وَيَجْعَلُونَهَا عَلَى رَأْسِ مَنْ تُقَرَّرُ لَهُ الْخِلَافَةُ، وَهِيَ الْآنَ بِمَحْرُوسَةِ مِصْرَ فِي أَيْدِي أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ، وَيَضَعُهَا الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِ السُّلْطَانِ يَوْمَ تَوْلِيَةِ السَّلْطَنَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ عِمَامَةٌ تُسَمَّى السَّحَابُ، وَكَانَ يَلْبَسُ تَحْتَهَا الْقَلَانِسَ جَمْعُ قَلَنْسُوَةٍ، وَهِيَ غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يَسْتَتِرُ بِهِ الرَّأْسُ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ الشَّاشِيَّةُ وَالْعِرْقِيَّةُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ قَلَنْسُوَةً ذَاتَ آذَانٍ يَلْبَسُهَا فِي السَّفَرِ، وَرُبَّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا صَلَّى، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالْمُصَنِّفُ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَائِمِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ شَقَّةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنَّ عِمَامَتَهُ كَانَتْ سَوْدَاءَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَايَتَهُ سَوْدَاءُ تُسَمَّى الْعُقَابَ.
(حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ (عَنْ مُسَاوِرٍ)
بِضَمِّ مِيمٍ وَمُهْمَلَةٍ وَكَسْرِ وَاوٍ وَرَاءٍ (الْوَرَّاقِ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ بَائِعُ الْوَرَقِ أَوْ صَانِعُهُ أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَى وَرَقِ الشَّجَرِ، أَخْرَجَ حَدِيثَهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ) مُصَغَّرُ حَرْثٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ وَمُثَلَّثَةٍ، رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ) يُحْتَمَلُ عَامَ الْفَتْحِ وَغَيْرَهُ، وَحَالَ الْخُطْبَةِ وَغَيْرَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَيَجِيءُ مَا يُبَيِّنُهُ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ وَيُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ) أَيْ عَلَى الْمِنْبَرِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ لُبْسَ السَّوَادِ إِنَّمَا كَانَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَقَطْ ; لِأَنَّ خُطْبَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِنْبَرٍ بَلْ كَانَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ (وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) أَيْ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَذَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ عِصَابَةٌ سَوْدَاءُ، وَهِيَ بِمَعْنَى الْعِمَامَةِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْقَامُوسِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَصْبِ وَهُوَ الشَّدُّ لِمَا يُشَدُّ بِهِ، وَهَذِهِ النُّسْخَةُ تُسَاعِدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الْعِمَامَةِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ فِي مَعْنَى حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَزَادَ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِي خَطَبَ النَّاسَ أَيْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْعَسْقَلَانِيِّ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُسَاوِرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقَوْلُهُ: طَرَفَيْهَا بِالتَّثْنِيَةِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ مُسْلِمٍ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِفْرَادِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَهُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ انْتَهَى. وَقَدْ لَبِسَ السَّوَادَ جَمَاعَةٌ كَعَلِيٍّ يَوْمَ قَتْلِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ، كَالْحَسَنِ كَانَ يَخْطُبُ بِثِيَابٍ سُودٍ وَعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، أَوْ عِصَابَةٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ يَخْطُبُ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، وَمُعَاوِيَةَ فَإِنَّهُ لَبِسَ عِمَامَةً سَوْدَاءَ وَجُبَّةً سَوْدَاءَ وَعِصَابَةً سَوْدَاءَ، وَأَنَسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَذَّاءَ وَعَمَّارٍ كَانَ يَخْطُبُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ أَمِيرُهَا وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ يَعْتَمُّ بِهَا وَوَرَدَ بِسَنَدٍ وَاهٍ هَبَطَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ وَعَلَيْهِ قُبَاءٌ أَسْوَدُ وَعِمَامَةٌ سَوْدَاءُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute