كُلُّ ذَنْبٍ أَدْخَلَ صَاحِبَهُ النَّارَ، أَيْ جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِدُخُولِهِ إِيَّاهَا ; وَلِهَذَا هِيَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَبِعَهُ كَالْإِسْفِرَايِينِيِّ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَهُ صَغِيرَةٌ، نَظَرًا لِمَنْ عَصَى، وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ مِنْ بَابِ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ: حَدُّهَا مُبْهَمٌ عَلَيْنَا، كَمَا أَبْهَمَ عَلَيْنَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَلَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ الْجُمُعَةِ، وَوَقْتَ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَيْلًا، وَالصَّلَاةَ الْوُسْطَى، وَحِكْمَتُهُ هُنَا: الِامْتِنَاعُ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْكَبِيرَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالصَّحِيحُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ، وَأَنَّ لِلْكَبِيرَةِ حَدًّا، فَقِيلَ: هِيَ مَا فِيهِ حَدٌّ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً، كَقَتْلِ نَفْسٍ، وَزِنًا، وَلِوَاطَةٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، وَسَرِقَةٍ وَقَذْفٍ، وَشَهَادَةِ زُورٍ، وَكَتْمِ شَهَادَةٍ، وَيَمِينٍ غَمُوسٍ، وَغَصْبِ مَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ، وَفِرَارٍ مِنَ الْكُفَّارِ بِلَا عُذْرِ، وَرِبًا وَأَخْذِ مَالِ يَتِيمٍ، وَرَشْوَةٍ وَعُقُوقِ أَصْلٍ، وَقَطْعِ رَحِمٍ وَكَذِبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْدًا، وَإِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ غُدُوًّا، وَبَخْسِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذِرَاعٍ، وَتَقْدِيمِ مَكْتُوبَةٍ عَلَى وَقْتِهَا، وَتَأْخِيرِهَا عَنْهُ، وَتَرْكِ زَكَاةٍ، وَضَرْبِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ عُدْوَانًا، وَسَبِّ صَحَابِيٍّ وَغَيْبَةِ عَالِمٍ أَوْ حَامِلِ قُرْآنٍ، وَسِعَايَةٍ عِنْدَ ظَالِمٍ، وَدِيَاثَةٍ وَقِيَادَةٍ وَتَرْكِ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ قَادِرٍ، وَتَعَلُّمِ سِحْرٍ أَوْ تَعْلِيمِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَنِسْيَانِ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِحْرَاقِ حَيَوَانٍ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَأْسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمْنٍ مِنْ مَكْرِهِ، وَنُشُوزِ زَوْجَةٍ، وَإِبَاءِ حَلِيلَةٍ مِنْ حَلِيلِهَا عَدْوًا، وَنَمِيمَةٍ، وَحُكِيَ أَنَّ الْغَيْبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ نَعَمْ تُبَاحُ لِأَسْبَابٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَصْرُ الصَّغَائِرِ مُتَعَذِّرٌ (قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ) فَائِدَةُ النِّدَاءِ مَعَ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى عِظَمِ الْإِذْعَانِ لِرِسَالَتِهِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ الْعَلِيَّةِ (قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) الْإِشْرَاكُ جَعْلُ أَحَدٍ شَرِيكًا لِآخَرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا اتِّخَاذُ إِلَهٍ غَيْرُ اللَّهِ، كَذَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكُفْرُ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، قَالَ مِيرَكُ:
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ الْكُفْرِ، وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِغَلَبَتِهِ فِي الْوُجُودِ، لَا سِيَّمَا فِي بَلَدِ الْعَرَبِ، فَذَكَرَهُ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُصُوصُهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ قُبْحًا مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَهُوَ التَّعْطِيلُ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ، وَالْإِشْرَاكُ ثَبَاتٌ مُقَيَّدٌ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ (وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ عِصْيَانُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا، وَجَمَعَهُمَا لِأَنَّ عُقُوقَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ عُقُوقَ الْآخَرِ غَالِبًا، وَيَجُرُّ إِلَيْهِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ عُقُوقُ كُلٍّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، وَفِي مَعْنَاهُمَا الْأَجْدَادُ، ثُمَّ الْعُقُوقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مُخَالَفَةُ مَنْ حَقُّهُ وَاجِبٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِّ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْمُرَادُ صُدُورُ مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، قَالَ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا إِلَّا فِي شِرْكٍ وَمَعْصِيَةٍ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فَفِي الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute