بِالْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ، وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوِكَاءِ، وَهُوَ مَا يُشَدُّ بِهِ الْكِيسُ وَنَحْوُهُ، وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ لَا أَقْعُدُ مُتَّكِئًا عَلَى وَطَاءٍ تَحْتِي ; لِأَنَّ هَذَا فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ الطَّعَامَ، وَإِنَّمَا أَكْلِي بُلْغَةٌ مِنْهُ، فَيَكُونُ قُعُودِي لَهُ مُسْتَوْفِرًا
وَلَيْسَ الْمُتَّكِئُ هُنَا الْمَائِلُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ، كَمَا تَظُنُّهُ الْعَامَّةُ، ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمُرَادُهُ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُنَا لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَائِلِ، بَلْ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ، فَيُكْرَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا ; لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُتَكَبِّرِينَ الَّذِينَ لَهُمْ نَهْمَةٌ وَشَرَهٌ، وَاسْتِكْثَارٌ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا مُضْطَجِعًا، إِلَّا فِيمَا يَنْتَقِلُ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ قَائِمًا لَكِنَّهُ قَاعِدًا أَفْضَلُ.
قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: الِاتِّكَاءُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ الِاتِّكَاءُ عَلَى أَحَدِ الْجَنْبَيْنِ، الثَّانِي: وَضْعُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ وَالِاتِّكَاءُ عَلَيْهَا، وَالثَّالِثُ: التَّرَبُّعُ عَلَى وَطَاءٍ وَالِاسْتِوَاءُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: اسْتِنَادُ الظَّهْرِ عَلَى وِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْمُومٌ حَالَةَ الْأَكْلِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ; لِأَنَّ فِيهِ تَكَبُّرًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْأَكْلِ مَائِلًا إِلَى الطَّعَامِ، وَكَانَ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، قَالَ: أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ، فَجَثَى عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَلَكٌ لَمْ يَأْتِهِ قَبْلَهَا، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا، أَوْ مَلَكًا نَبِيًّا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ لَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ: بَلْ عَبْدًا نَبِيًّا، قَالَ: فَمَا آكُلُ مُتَّكِئًا» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، وَقَدْ وَصَلَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ قَالَ: «مَا رُؤِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ فَزِعَ، فَقَالَ: إِنِّي أُعِيذُ بِكَ رَسُولَكَ» ، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَّةَ الَّتِي فِي أَثَرِ مُجَاهِدٍ، مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي نَاسِخِهِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ جِبْرِيلَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا فَنَهَاهُ، وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، بَعْدَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي حُكْمِ الْأَكْلِ مُتَّكِئًا، فَزَعَمَ ابْنُ الْقَاصِّ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ، فَقَالَ: قَدْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُلُوكِ الْعَجَمِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ بِالْمَرْءِ مَانِعٌ لَا يُمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ إِلَّا مُتَّكِئًا، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ، ثُمَّ سَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَكَلُوا كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى حَمْلِ ذَلِكَ عَنْهُمْ عَلَى الضَّرُورَةِ.
وَفِي الْحَمْلِ نَظَرٌ، إِذْ قَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَالزُّهْرِيِّ، جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرَدَ فِيهِ نَهْيٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتَمِدَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ الْأَكْلِ، قَالَ مَالِكٌ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الِاتِّكَاءِ وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ مِنْهُ إِلَى كَرَاهَةِ كُلِّ مَا يُعَدُّ الْآكِلُ فِيهِ مُتَّكِئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ بِعَيْنِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ
كَوْنُهُ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى، فَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَظُهُورِ قَدَمَيْهِ، أَوْ يَنْصِبُ الرِّجْلَ الْيُمْنَى، وَيَجْلِسُ عَلَى الْيُسْرَى، وَاسْتَثْنَى الْغَزَّالِيُّ مِنْ كَرَاهَةِ الْأَكْلِ مُضْطَجِعًا، أَكْلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute