للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُنَاكَ اللَّيَالِي بِأَيَّامِهَا، وَنَظِيرُهُ فِي التَّنْزِيلِ: ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، (مُتَتَابِعِينَ) وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَشْبَعُ يَوْمَيْنِ، لَكِنْ غَيْرَ مُتَوَالِيَيْنِ (حَتَّى قُبِضَ) أَيْ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَمَاتَ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ بِمَا فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْأَسْفَارِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ تَشَرَّفَتْ بِمُلَازَمَتِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ عَنْهَا بِلَفْظِ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.

قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهَا: الْمَدِينَةَ، يُخْرِجُ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.

وَقَوْلُهَا: مِنْ طَعَامِ بُرٍّ، يُخْرِجُ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ.

وَقَوْلُهَا: تِبَاعًا، يُخْرِجُ التَّفَارِيقَ، وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ: «مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ» .

قَالَ الشَّيْخُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّمْرَ كَانَ أَيْسَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ رُبَّمَا لَمْ يَجِدُوا فِي الْيَوْمِ إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ وَجَدُوا أَكْلَتَيْنِ، فَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ.

وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ مِسْعَرٍ بِلَفْظِ، مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ، إِلَّا وَإِحْدَاهُمَا تَمْرٌ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عِمْرَانَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: «خَرَجَ - تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ، كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ، وَإِذَا شَبِعَ مِنَ الشَّعِيرِ، لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ» .

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ يُنَافِيهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً.

وَيُجَابُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، بِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَوَاخِرَ حَيَاتِهِ، لَكِنْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ حَوَائِجُ الْمُحْتَاجِينَ، فَيُخْرِجُهُ فِيهَا، فَصَدَقَ عَلَيْهِ، أَنَّهُ ادَّخَرَ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَشْبَعُوا كَمَا ذُكِرَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مَا ادَّخَرَ لَهُمْ، انْتَهَى.

وَفِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ

مِنْهُ أَنَّ تَضْيِيقَ الْحَالِ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ تَعُمُّ الْأَحْوَالَ، فَالْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَدَّخِرُ قُوتَهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ فَمَا كَانُوا يَشْبَعُونَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَصْرِيحَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنَ الْقِلَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَادَتُهُمْ عَدَمَ الشِّبَعِ، نَعَمْ. مَا كَانُوا يَجِدُونَ مِنْ لَذِيذِ الْأَطْعِمَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الشِّبَعِ غَالِبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا شَطْرَ شَعِيرٍ فِي زِقٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.

(حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَفَتْحِ كَافٍ، وَفِي نُسْخَةٍ أَبِي بَكْرَةَ (حَدَّثَنَا حَرِيزُ) بِفَتْحِ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ، وَكَسْرِ رَاءٍ، وَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَزَايٍ (بْنُ عُثْمَانَ عَنْ سُلَيْمِ) بِالتَّصْغِيرِ (بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَهُوَ الْبَاهِلِيُّ (يَقُولُ: مَا كَانَ يَفْضُلُ) بِضَمِّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يَزِيدُ (عَنْ) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى (أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزُ الشَّعِيرِ) كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ شِبَعِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْمَعْنَى لَمْ يَكْثُرْ مَا يَجِدُونَهُ، وَلَا يَخْبِزُونَهُ مِنَ الشَّعِيرِ عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَفْضُلَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، بَلْ كَانُوا مَا يَجِدُونَهُ لَا يُشْبِعُهُمْ فِي الْأَكْثَرِ.

قَالَ مِيرَكُ: أَيْ كَانَ لَا يَبْقَى فِي سُفْرَتِهِمْ فَاضِلًا عَنْ مَأْكُولِهِمْ.

وَعَنِ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَفَعَ عَنْ مَائِدَتِهِ كِسْرَةَ خُبْزٍ فَضْلًا حَتَّى قُبِضَ.

قَالَ: وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَشْبَعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْخُبْزِ، بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ.

قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَالُ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>