للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَأَسُّفًا عَلَى فَوْتِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ.

قِيلَ: عَبَّرَتْ بِأَبْكِي لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ; لِأَنَّ أَبْكِي مَعْمُولٌ لِأَشَاءُ الْمُسْتَقْبَلُ فَلَزِمَ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا، بِخِلَافِ بَكَيْتُ بَعْدَ إِلَّا ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا وُجِدَ، وَقِيلَ: الْفَاءُ فِي «فَأَشَاءُ» لِلتَّعْلِيلِ، وَالْمَعْنَى مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ ; لِأَنِّي أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ فَالْعِلَّةُ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ، لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا ; وَلِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ ; لِأَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُهَا أَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لِي مِنْ شِبَعٍ، وَلَا تَسَبَّبَ عَنْهُ مَشِيئَتِي لِلْبُكَاءِ إِلَّا يُوجَدُ مِنِّي فَوْرًا، مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَقِيلَ: الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ لَازِمٌ لِلشِّبَعِ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْمَشِيئَةُ، وَلَيْسَتِ الْمَشِيئَةُ لَازِمَةً لِلشِّبَعِ، وَلِذَا قَالَتْ: فَأَشَاءُ وَلَمْ تَقْتَصِرْ عَلَى: «مَا أَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ إِلَّا بَكَيْتُ» (قَالَ) أَيْ: مَسْرُوقٌ (قُلْتُ: لِمَ) أَيْ لِمَ تَشَائِينَ أَنْ تَبْكِي، وَفِي التَّحْقِيقِ لِمَ تَتَسَبَّبُ عَنِ الشِّبَعِ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الْمُسَبَّبُ عَنْهَا وُجُودُ الْبُكَاءِ فَوْرًا؟ (قَالَتْ: أَذْكُرُ) أَيْ أَشَاءُ أَنْ أَبْكِيَ لِأَنِّي أَذْكُرُ (الْحَالَ الَّتِي فَارَقَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَا) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْنَا، وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ، قَالَ مِيرَكْ شَاهْ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ فَارَقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذِهِ النُّسْخَةُ أَنْسَبُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، إِذْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْجِيهٍ وَتَكَلُّفٍ وَتَقْدِيرٍ، انْتَهَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَى بِمَعْنَى عَنْ أَوِ التَّقْدِيرُ مُتَعَدِّيًا، وَمَا رَأَى عَلَيْنَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهَا قَالَتْ: كُلَّمَا شَبِعْتُ بَكَيْتُ، لِتَذَكُّرِ الْحَالِ الَّتِي فَارَقَتْ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْحَالَةَ بِقَوْلِهَا: (وَاللَّهِ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ) تَنْوِينُهُمَا لِلتَّنْكِيرِ قَصْدًا لِلْعُمُومِ، وَلَا زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَإِذَا لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُمَا فَبِالْأَوْلَى أَنْ لَا يَشْبَعَ مِنْ غَيْرِهِمَا، مِنَ الْأَعْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ

عُمْرِهِ، فَلَمْ يُوجَدْ يَوْمٌ قَطُّ شَبِعَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ مِنْهُمَا، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ شَبِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَرَّةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قِيلَ: كَلِمَةُ لَا فِي: «وَلَا لَحْمٍ» ، تُفِيدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مِنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَقْصُودُ نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ خُبْزٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ مَا شَبِعَ مَنْ لَحْمٍ مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، لَا نَفْيُ شِبَعِهِ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا مَعًا مَرَّتَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ آكَدُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَأَنْسَبُ فِي مَزِيَّةِ الْمَرْتَبَةِ.

(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ الِأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ) أَيْ فَضْلًا عَنْ خُبْزِ بُرٍّ (يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ) أَيْ تُوُفِّيَ وَفَاءً بِقَوْلِهِ: حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَالْغِنَى، وَاخْتَارَ الْفَقْرَ وَالْفَنَاءَ.

«أُرِيدُ أَنْ أَجُوعَ يَوْمًا فَأَصْبِرُ، وَأَشْبَعُ يَوْمًا فَأَشْكُرُ» .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَمَالَ هُوَ الْحَالُ الْمُتَضَمِّنُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْجَلَالِ، وَالْجَمَالِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِمَا الْقَبْضُ وَالْبَسْطُ وَالْفَنَاءُ وَالْبَقَاءُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ.

(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْكَاشِفِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخَ الشَّمَائِلِ، وَأَبُو مَعْمَرٍ بِوَاوِ الْعَطْفِ بَعْدَ وَاوِ عَمْرٍو، وَقَالَا: بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ وَهُوَ سَهْوٌ مِنَ النَّاسِخِ حَيْثُ قَرَأَ الْوَاوَ مُكَرَّرًا، وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (قَالَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ) بِفَتْحٍ فَضَمٍّ (عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>