وَالرَّغْبَةِ، فِيمَا عِنْدَهُ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ مَعَ بُعْدِهِ لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ) إِذِ الرِّوَايَةُ فِيهِ لَيْسَتْ إِلَّا عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرَّسْمِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرُ مَطْرُوحٍ، وَلَا مُعْرِضٍ عَنْهُ، بَلْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ لَا.
لَا أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قِيلَ، وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّهُ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ لَمْ تُسْتَفَدْ مِنْ سَابِقِهِ نَصًّا وَهِيَ أَنَّهُ لَا اسْتِغْنَاءَ لِأَحَدٍ عَنِ الْحَمْدِ لِوُجُوبِهِ بِهِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، إِذْ لَا يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ نِعَمِهِ، بَلْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ وَاجِبٌ، كَمَا صَرَّحُوا بِهِ لَكِنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِهِ أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَفْظًا يَأْثَمُ، بَلْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِهِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ فِي مُقَابَلَةِ النِّعَمِ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَمَنْ أَتَى بِهِ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، أَمَّا شُكْرُ النِّعَمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إِجْمَاعًا ثُمَّ قَوْلُهُ: (رَبَّنَا) بِتَثْلِيثِ الْمُوَحَّدَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِهِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا «غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ» الْحَدِيثَ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى أَحَدٍ، فَيَكْفِي لَكِنَّهُ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ وَيَكْفِي وَلَا يُكْفَى، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ كَفَأْتُ الْإِنَاءَ أَيْ: غَيْرَ مَرْدُودٍ عَلَيْهِ إِنْعَامُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ الْكِفَايَةِ أَيْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيْرُ مُكْفًى، رَزَقَ عِبَادَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَكْفِيهِمْ أَحَدٌ غَيْرُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلطَّعَامِ، وَمَكْفِيٌّ بِمَعْنَى مَقْلُوبٍ مِنَ الْإِكْفَاءِ وَهُوَ الْقَلْبُ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ أَنَّ الصَّوَابَ غَيْرُ مُكَافَأٍ بِالْهَمْزَةِ، أَيْ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُكَافَأُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَثَبَتَ هَذَا اللَّفْظُ هَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ بِالْيَاءِ وَلِكُلٍّ مَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مِيرَكُ: اعْلَمْ أَنَّ ضَمِيرَ اسْمِ الْمَفْعُولِ فِي مُوَدَّعٍ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إِلَى الْحَمْدِ أَوْ إِلَى الطَّعَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ «غَيْرَ» مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ أَعْنِي أَوْ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ يَعْنِي مِنَ اللَّهِ فِي الْحَمْدِ لِلَّهِ، بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوِ الْفَاعِلِيَّةِ فِيهِ، أَيِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، أَيْ غَيْرُ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ هُوَ الْمَرْجِعُ وَالْمُسْتَغَاثُ وَالْمَدْعُوُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ مَرْفُوعًا أَيْ هُوَ غَيْرُ مُوَدَّعٍ، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ، بَلِ الِاشْتِغَالَ بِهِ دَائِمٌ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ، كَمَا أَنَّ نِعَمَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ ضَرُورِيٌّ دَائِمًا، وَنَصْبُ «غَيْرَ» وَرَفْعُهُ بِحَالِهِمَا، وَعَلَى الثَّالِثِ مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّعَامَ غَيْرُ مَتْرُوكٍ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ دَائِمَةٌ، وَجُمْلَةُ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَالنَّصْبُ وَالرَّفْعُ فِي غَيْرٍ بِحَالِهِمَا، وَقَوْلُهُ: رَبُّنَا رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، فَالرَّفْعُ عَلَى
تَقْدِيرِ هُوَ رَبُّنَا، أَوْ أَنْتَ رَبُّنَا اسْمَعْ حَمْدَنَا وَدُعَاءَنَا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ «غَيْرُ» بِالرَّفْعِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّدَاءِ، وَالْجَرُّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ اللَّهِ، انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي عَنْهُ، وَاضِحُ الْفَسَادِ، إِذْ ضَمِيرُ عَنْهُ لِلْحَمْدِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ، انْتَهَى. وَفِيهِ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَجْهُ أَنَّ ضَمِيرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، فَلَا فَسَادَ حِينَئِذٍ أَصْلًا، وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: «رَبَّنَا» ، حَيْثُ قَالَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ رَبُّنَا هَذَا، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي نَصْبِهِ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ إِضْمَارِ، أَعْنِي أَيْضًا خِلَافًا لِمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى النِّدَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَصَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ وَأَفْضَيْتَ، وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَدْعُوَ لَهُمْ، فَدَعَا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي مَنْزِلِ سَعْدٍ، بِقَوْلِهِ: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَسَقَاهُ آخَرُ لَبَنًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّيِّ، وَفِي خَبَرٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ مَعَ قَوْمٍ كَانَ آخِرَهُمْ أَكَلًا، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مَرْفُوعًا، إِذَا وُضِعَتِ الْمَائِدَةُ فَلَا يَقُومُ الرَّجُلُ وَإِنْ شَبِعَ، حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُخْجِلُ جَلِيسَهُ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الطَّعَامِ حَاجَةً.
(حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ، أَيِ ابْنُ وَزِيرٍ قِيلَ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الْبَلْخِيُّ مُسْتَمْلَى وَكِيعٍ، حَدَّثَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ، مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، (