عَبَّاسٍ لَا أُوثِرُ بِسُؤْرِكَ أَحَدًا، أَيْ لَا أَتْرُكُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِي، انْتَهَى.
وَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ أَوِ الْمُرَادَ مِنْ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْفَضْلُ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ، كَمَا إِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ سُؤْرِ أَحَدٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ حَسَنٌ ; لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَنَعَ الْإِيثَارَ ; لِأَنَّهُ يُحْرَمُ عَنْ سُؤْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقَعُ لَهُ سُؤْرُ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَالِدًا مَا كَانَ يَشْرَبُ سُؤْرَهُ كُلَّهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فَرَاغُ اللَّبَنِ بِشُرْبِ خَالِدٍ، لَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْإِيثَارِ أَوْلَى لِلْحِرْمَانِ الْكُلِّيِّ، لَكِنْ غَفَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَنَّ سُؤْرَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ بَقَاءِ سُؤْرِ خَالِدٍ أَفْضَلُ، فَكَانَ الْإِيثَارُ مُوجِبًا لِلْأَكْمَلِ، فَإِنَّ سُؤْرَ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ ; وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ مَاءَ زَمْزَمَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلْفَضْلِ: هَاتِ الشَّرْبَةَ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ مَاءَ السِّقَايَةِ اسْتَعْمَلَتْهُ الْأَيَادِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أُرِيدُ بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْمَطَاهِرِ أَيِ السِّقَايَاتِ، فَيُؤْتَى بِالْمَاءِ فَيَشْرَبُهُ، وَيَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الرَّدَّ عَلَى قَائِلِ الْمُضَافِ، وَنَسَبَ قَوْلَهْ إِلَى الرَّكَاكَةِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ) أَيْ نَدْبًا بَعْدَ أَكْلِهِ وَالْحَمْدِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَلْيَقُلْ حَالَ الْأَكْلِ، فَإِنَّ آخِرَهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَمْدِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ; لِأَنَّ حَالَ الْأَكْلِ لَا يُقَالُ أَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ زِدْنَا مِنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا) أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْآكِلِينَ (فِيهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ رِعَايَةً لِلَّفْظِ الْوَارِدِ وَمُلَاحَظَةً لِعُمُومِ الْإِخْوَانِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، (وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَاهُ (وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا) أَيْ خَالِصًا أَوْ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَغَيْرِهِ، (فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ) أَيْ مِنْ جِنْسِ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبْنَا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي اللَّبَنِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى دَلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ) بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ أَيْ لَا يُغْنِي وَلَا يَكْفِي، وَلَا يَقُومُ شَيْءٌ (مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) أَيْ مَقَامَهُمَا (غَيْرَ اللَّبَنِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِ، وَأَغْرَبَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْحَقُ مَا عَدَا اللَّبَنَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ بِهِ أَوْ بِالطَّعَامِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ أَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَمِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (هَكَذَا) أَيْ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي إِيرَادِ الْإِسْنَادِ (رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ) يَعْنِي الْأَوَّلَ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) أَيْ مُتَّصِلًا كَمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي وَلَهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْقَاطِ عُرْوَةَ، فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ; وَلِذَا قَالَ: (وَلَمْ يَذْكُرُوا) أَيِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَكْثَرُونَ (فِيهِ) أَيْ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَكَذَا رَوَى يُونُسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute