أَنَّ الْمَعْنَى الْأَخِيرَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ ; فَيَكُونُ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ مَذَلَّةٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ جَافٍّ لِلْأَحِبَّاءِ، وَلَا ذَلِيلٍ لَدَى الْأَعْدَاءِ بَلْ مُتَوَاضِعٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمُتَكَبِّرٌ عَلَى الْمُتَجَبِّرِينَ ; فَيُطَابِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيُوَافِقُ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (يُعَظِّمُ) بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ (النِّعْمَةَ) أَيْ: يَقُومُ بِتَعْظِيمِهَا قَوْلًا بِحَمْدِهِ، وَفِعْلًا بِالْقِيَامِ بِشُكْرِهِ فِي صَرْفِهَا لِمَرْضَاةِ رَبِّهِ (وَإِنْ دَقَّتْ) أَيْ: وَإِنْ صَغُرَتْ، وَقَلَّتِ النِّعْمَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ نِعْمَةً ظَاهِرِيَّةً أَوْ بَاطِنِيَّةً دُنْيَوِيَّةً أَوْ أُخْرَوِيَّةً.
فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْخَلِيلِ جَلِيلٌ.
وَمَا يَشْكُرُ الْكَثِيرَ مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ (لَا يَذُمُّ مِنْهَا) أَيْ: مِنَ النِّعْمَةِ (شَيْئًا) .
وَالظَّرْفُ بَيَانٌ لَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ أَيْ: وَمِنْ جُمْلَةِ تَعْظِيمِهَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَذُمُّ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ كَانَ يَمْدَحُهَا، وَيَشْكُرُهَا لِمَا عِنْدَهُ مِنْ كَمَالِ شُهُودِ عَظَمَةِ الْمُنْعِمِ الْمُسْتَلْزِمِ لِعَظَمَةِ النِّعْمَةِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ نَفْيِ الْمَذَمَّةِ، وَمَدْحِ جَمِيعِ أَنْوَاعِ أَفْرَادِ النِّعْمَةِ (غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَذُمُّ ذَوَاقًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَتَخْفِيفِ وَاوِهِ أَيْ: مَأْكُولًا، وَمَشْرُوبًا (وَلَا يَمْدَحُهُ) أَمَّا نَفْيُ مَدْحِهِ ; فَلِكَوْنِ الْمَدْحِ يُشْعِرُ بِالْحِرْصِ، وَالشُّهْرَةِ، وَبِهَذَا اتَّضَحَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ حَجْرٍ فِي قَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْمَدْحِ عَلَى حَدِّ بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ فِي مَحَلٍّ لِلْحَلِّ فَتَأَمَّلْ.
وَأَغْرَبُ مِنْهُ كَلَامًا الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ: هَذَا دَفْعُ وَهْمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ لَا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْدَحُهَا، وَدَفَعَهُ أَنَّهُ لَا يَمْدَحُهَا، وَلَا يَذُمُّهَا هَذَا.
قَالَ مِيرَكُ: الذَّوَّاقُ فَعَّالٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ مِنَ الذَّوْقِ، وَيَقَعُ عَلَى الِاسْمِ، وَالْمَصْدَرِ، وَفِي الْفَائِقِ الذَّوَّاقُ اسْمُ مَا يُذَاقُ أَيْ: لَا يَصِفُ الطَّعَامَ بِطَبِيعَةٍ، وَلَا بِبَشَاعَةٍ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ كَانَ يَمْدَحُ جَمِيعَ نِعَمِ اللَّهِ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِمَذَمَّتِهَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِمَدْحِ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَلَا يَذُمُّهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ (وَلَا تُغْضِبُهُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: لَا تُوقِعُهُ فِي الْغَضَبِ (الدُّنْيَا) أَيْ: جَاهُهَا، وَمَالُهَا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَالِهَا، وَمَا لَهَا، وَكَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (وَلَا مَا كَانَ لَهَا) أَيْ: وَلَا يُغْضِبُهُ أَيْضًا مَا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ مَا بِالدُّنْيَا لِدَنَاءَتِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا، وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا، وَخِسَّةِ شُرَكَائِهَا، وَزِيَادَةُ لَا لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَكَأَنَّهَا سَقَطَتْ مِنْ نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ تُغْضِبُهُ، وَهُوَ مَا كَانَ خُلِقَ لَهَا أَيْ: لِلتَّمَتُّعِ بِلَذَّاتِهَا بَلْ لِهِدَايَةِ الضَّالِّينَ انْتَهَى. وَهُوَ صَحِيحٌ بِحَسَبِ الدِّرَايَةِ لَكِنْ يُخَالِفُهُ الرِّوَايَةُ (فَإِذَا تُعُدِّيَ الْحَقُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا تَجَاوَزَ أَحَدٌ عَنِ الْحَقِّ (لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ) أَيْ: لَمْ يَدْفَعْ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُقَاوِمْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَانِعَةِ فِي الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ (حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَيْ: حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلْحَقِّ بِالْحَقِّ (لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ) أَيْ: وَلَوْ تُعُدِّيَ فِي حَقِّهَا بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ مِنْ أَجْلَافِ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ (وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا) بَلْ يُقَابِلُهُ بِالْحِلْمِ، وَالْكَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (إِذَا أَشَارَ) أَيْ: إِلَى إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ (أَشَارَ) أَيْ: إِلَيْهِ (بِكَفِّهِ كُلِّهَا) أَيْ: جَمِيعِهَا، وَلَا يَقْتَصِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute