التَّأْيِيدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقْدِيسِهِ مِنْ ذَلِكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى.
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُ التُّورِبِشْتِيِّ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ شِعْرَكَ هَذَا الَّذِي تُنَافِحُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُلْهِمُكَ الْمَلَكُ سَبِيلَهُ، بِخِلَافِ مَا يَتَقَوَّلُهُ الشُّعَرَاءُ إِذَا اتَّبَعُوا الْهَوَى وَهَامُوا فِي كُلِّ وَادٍ ; فَإِنَّ مَادَّةَ قَوْلِهِمْ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى.
وَقِيلَ لَمَّا دَعَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعَانَهُ جِبْرِيلُ بِسَبْعِينَ بَيْتًا هَذَا.
وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيُّ: ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالشَّرَفِ أَيْ: يُفَاخِرُ لِأَجْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجْهَتُهُ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَسَّانًا يُظْهِرُ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ وَالشَّرَفَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَأَنَّ شَارِحًا عَكَسَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ، وَنَسَبَ الْكِبْرَ، وَالْعَظَمَةَ إِلَى حَسَّانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ شَاعِرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ ; فَإِنَّهُ أَبْلَغُ بَلَاغَةً وَتَبْلِيغًا ; فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ التَّابِعُ مُعَظَّمًا لِأَجْلِ الْمَتْبُوعِ كَانَ الْمَتْبُوعُ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعَظَمَةِ بِالْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ، وَالتِّبْيَانِ الْعَلِيِّ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْبُرْدَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَكْسِ فِي الدَّلِيلِ إِيمَاءً إِلَى حَقِيقَةِ التَّعْلِيلِ. لَمَّا دَعَا اللَّهُ دَاعِينَا لِطَاعَتِهِ بِأَكْرَمِ الرُّسْلِ كُنَّا أَكْرَمَ الْأُمَمِ.
وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ تَنَاوُبُ الْحُرُوفِ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، وَإِمَّا عَلَى قَصْدِ الْمَعَانِي التَّضَمُّنِيَّةِ.
وَأَمَّا مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ الْكِبْرِ مَذْمُومَةٌ ; فَلَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا ; فَإِنَّ التَّكَبُّرَ عَلَى الْكَافِرِينَ قُرْبَةٌ، وَعَلَى سَائِرِ الْمُتَكَبِّرِينَ صَدَقَةٌ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ فَانْدَفَعَ بِهَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَفَاخِرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَثَالِبَ أَعْدَائِهِ، وَرَدِّ مَقُولِهِمْ فِي حَقِّهِ.
وَأَمَّا مَا قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى الشَّرَفِ، وَالْكِبْرِ وَالْعِظَمِ بِكَوْنِهِ مِنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُمْتَازِ بِالْفَضْلِ عَلَى الْخَلَائِقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهُوَ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ وَلَيْتَهُ لَمْ يَذْكُرِ الْكِبْرَ ; فَإِنَّ ذِكْرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيهِ مَا فِيهِ انْتَهَى.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهِ عَلَى وَجْهٍ يُوَافِيهِ وَلَا يُنَافِيهِ، ثُمَّ لَا تَنَافِي بَيْنَ جَمْعِهِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَتَيْنِ.
نَعَمِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُ فَخْرِهِ وَتَعْظِيمُ قَدْرِهِ، وَتَفْخِيمُ أَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنُو تَمِيمٍ، وَشَاعِرُهُمُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ; فَنَادَوْهُ يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا نُفَاخِرْكَ أَوْ نُشَاعِرْكَ ; فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ
وَذَمَّنَا شَيْنٌ ; فَلَمْ يَزِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ قَالَ: ذَلِكَ اللَّهُ إِذَا مَدَحَ زَانَ وَإِذَا ذَمَّ شَانَ، إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالْفَخْرِ، وَلَكِنْ هَاتُوا فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُجِيبَ خَطِيبَهُمْ، فَخَطَبَ فَغَلَبَهُمْ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ:
أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْرِفُ النَّاسُ فَضْلَنَا ... إِذَا خَالَفُونَا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
وَأَنَّا رُءُوسُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَشْعَرٍ
وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَّانًا يُجِيبُهُمْ فَقَامَ فَقَالَ:
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إِنَّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمُ ... لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ قَنٍّ وَخَادِمِ
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ شَاعِرُهُمْ، وَثَابِتٌ الْمَذْكُورُ خَطِيبُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَطِيبُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ خَزْرَجِيٌّ شَهِدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ، وَاسْتُشْهِدَ بِالْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ هَذَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا وَإِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِغَيْرِ أَبِي دَاوُدَ عَيْلًا بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: ثَقِيلًا وَوَبَالًا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا ; فَالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِالْحُجَّةِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ، فَيَذْهَبُ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ جَهْلًا، فَتَكَلُّفُ الْعَالِمِ إِلَى عِلْمِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَهْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا، فَهُوَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ بَعْضَ الشِّعْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ (مِنْ) تَبْغِيضِيَّةٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً أَيْ: قَوْلًا صَادِقًا مُطَابِقًا قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَبِهِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الشِّعْرَ مُطْلَقًا، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ الشِّعْرُ مَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِفْرَاطِ فِيهِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ أَوْ عَلَى الشِّعْرِ الْمَذْمُومِ، وَكَذَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُهْبِطَ إِلَى الْأَرْضِ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي قُرْآنًا قَالَ: قُرْآنُكَ الشِّعْرُ.
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى) أَيِ: الْفَزَارِيُّ (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) يَعْنِي وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ (قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَإِنَّمَا الْمُغَايَرَةُ بِحَسْبِ الْإِسْنَادِ، فَالْأَوَّلُ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ