وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: أَمُّ هَانِئٍ كُنْتُ أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْرَأُ وَأَنَا نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِي يُرَجِّعُ الْقُرْآنَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّرِيرُ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوْفِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا (يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَاقَتِهِ) أَيْ: رَاكِبًا (يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيْ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَهُوَ يَقْرَأُ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ ; لِأَنَّ صُلْحَهَا كَانَ مُقَدِّمَةً، وَتَوْطِئَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيِ: التَّقْصِيرَاتِ السَّابِقَةِ، وَاللَّاحِقَةِ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مُغَفَّلٍ (فَقَرَأَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَهُ، أَيِ: الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَرَجَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ التَّرْجِيعِ بِمَعْنَى التَّحْسِينِ، وَإِشْبَاعَ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» أَيْ: أَظْهِرُوا زِينَتَهُ وَحُسْنَهُ بِتَحْسِينِ آدَائِكُمْ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حِلْيَةٌ وَحِلْيَةُ الْقُرْآنِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ أَيْ: بِقِرَاءَتِهِ فَإِنَّ زِينَةَ الصَّوْتِ تَزِيدُ بِزِينَةِ الْمَقْرُوءِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْغَنَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ، وَوَرَدَ «مَا أَذِنَ اللَّهُ - أَيْ مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ - كَأَذَنِهِ بِالتَّحْرِيكِ - أَيْ: كَاسْتِمَاعِهِ - لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَمِعَ أَبَا مُوسَى يَقْرَأُ قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ أَيْ: دَاوُدَ نَفْسِهِ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ وَتَحْزِينِ الْقَلْبِ، وَتَنْشِيطِ الرُّوحِ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا تَهْدِيدًا أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا تَأْكِيدًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغَنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغِنَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ وَظَنَّ أَنَّهُ أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقَدْ حَقَّرَ عَظِيمًا، وَعَظَّمَ حَقِيرًا.
هَذَا وَقَدْ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ تَرْجِيعُ الْأَذَانِ وَقِيلَ هُوَ تَقَارُبُ ضُرُوبِ الْحَرَكَاتِ فِي الصَّوْتِ، وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ بِتَرْجِيعِهِ بِمَدِّ الصَّوْتِ فِي الْقِرَاءَةِ نَحْوَ آاآ وَهَذَا إِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَ الْفَتْحِ ; لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَجَعَلَتِ النَّاقَةُ تَحَرِّكُهُ، وَتَهْتَزُّ بِهِ فَحَدَثَ التَّرْجِيعُ فِي صَوْتِهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُرَجِّعُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ رَاكِبًا، فَلَمْ يَحْدُثْ فِي قِرَاءَتِهِ التَّرْجِيعُ انْتَهَى. أَوْ كَانَ لَا يُرَجِّعُ قَصْدًا وَإِنَّمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّرْجِيعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا، وَتَرَكَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ رَدًّا عَلَى ابْنِ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَزِّ النَّاقَةِ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِيهِ وَيَفْعَلُهُ اخْتِيَارًا لِيَتَأَسَّى بِهِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ حِكَايَتُهُ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ اخْتِيَارًا لَيْسَ لِلتَّأَسِّي بَلْ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهِ ثُمَّ قَوْلُهُ آاآ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ مَمْدُودَاتٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَدَثَ بِهَزِّ النَّاقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ أَوْ بِإِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوَاضِعِهِ، وَهُوَ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ أَوْفَقُ وَلِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ أَحَقُّ (قَالَ) أَيْ: شُعْبَةُ (وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ) أَيْ: لَوْلَا مَخَافَةُ الِاجْتِمَاعِ لَدَيَّ وَخَشْيَةُ إِنْكَارِ بَعْضِهِمْ عَلَيَّ (لَأَخَذْتُ) أَيْ: لَشَرَعْتُ (لَكُمْ فِي ذَلِكَ الصَّوْتِ) أَيْ: وَقَرَأْتُ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ، قَالَ شَارِحٌ: مِنْ عُلَمَائِنَا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute