للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ عَائِشَةَ) وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهَا الشَّيْخَانِ (قَالَتْ: إِنَّمَا كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ) أَيْ: فِي بَيْتِهَا أَوْ مُطْلَقًا، وَلَمَّا كَانَ الْفِرَاشُ لِلْجُلُوسِ أَيْضًا قَيَّدَتْ بِمَا يَنَامُ عَلَيْهِ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ لَهُمَا وَقَوْلُهُ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ أَدِيمٍ، وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ أَوِ الْأَحْمَرُ أَوْ مُطْلَقُ الْجِلْدِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمًا بِالنَّصْبِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَدَمٌ بِالرَّفْعِ قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَوَجْهُهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَوَجَّهَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: هُوَ أَدَمٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الْفِرَاشِ، وَكَانَ تَامَّةٌ انْتَهَى.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي كَانَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ فِرَاشُهُ أَدَمٌ بَيَانٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَدَمٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ كَانَ وَقَوْلُهُ (حَشْوُهُ) أَيْ: مَحْشُوُّهُ وَالضَّمِيرُ لِلْفِرَاشِ

(لِيفٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: مِنْ لِيفِ النَّخْلِ ; لِأَنَّهُ الْكَثِيرُ بَلِ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الضَّمِيرُ لِلْأَدَمِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ جَمْعًا، فَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِلْأَدَمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَجَعَلَهَا حَالِيَّةً مِنْ فِرَاشٍ انْتَهَى.

وَبُعْدُهُ لَا يَخْفَى، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قِيلَ أَرَادَ ذِكْرَ خُشُونَةِ فِرَاشِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ، وَهَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ هَذَا الْفِرَاشَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا نَامَ فِيهِ رِعَايَةً لِزَوْجَتِهِ، وَإِلَّا فَالْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى عَلِيًّا نَامَ عَلَى التُّرَابِ مَدَحَهُ بِأَنْ كَنَّاهُ بِأَبِي تُرَابٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْتِصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّ الْأُبُوَّةَ تَقْتَضِي التَّرْبِيَةَ، فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ، وَنَادَاهُ بِأَبِي التُّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَرْضَ فِي حِيطَةِ تَرْبِيَةِ وُجُودِكَ إِيَّاهُ بِرِيَاضَةٍ اخْتَرْتَهَا، وَقَبُولٍ حَصَلَ لَكَ مِنْ رَبِّكَ انْتَهَى. بِلَفْظَةِ وَأَنْتَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُعَقَّدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى مُجَرَّدِ الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ الْحَقِيقِ بِأَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ نُخَالَةٌ لَا دَقِيقَ مِنْ وَرَاءِ التَّأَمُّلِ كَيْفَ، وَقَوْلُهُ: الْغَالِبُ أَنْ يَنَامَ عَلَى التُّرَابِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا وَارِدَ يُعَضِّدُهُ بَلِ الْمَعْلُومُ مِنْ حَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَنَمْ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ، وَيَشْهَدُ إِلَخْ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ إِذْ لَا شَاهِدَ فِي تَكْنِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ بِأَبِي تُرَابٍ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ، وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَمْنُوعٌ بَلْ هَذَا هُوَ الْحَامِلُ عَلَى التَّكْنِيَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَارَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ فَمَا كَنَّاهُ بِذَلِكَ إِلَّا حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا نَامَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَاطِمَةَ شَيْءٌ فَذَهَبَ غَضْبَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَنَامَ عَلَى تُرَابِهِ فَجَاءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفَاطِمَةَ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَأَخْبَرَتْهُ فَجَاءَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، وَقَدْ أَعْلَاهُ الْغُبَارُ فَصَارَ، يَنْفُضُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ، وَيَكْفِي مُسَوِّغًا لِكُنْيَتِهِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي رَآهُ عَلَيْهَا، وَقَوْلُهُ فَسَمَّاهُ بِعَمَلِهِ إِلَخْ كَلَامٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لَا يَرْضَى بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِ إِلَّا عَدِيمُ التَّمْيِيزِ فَكَيْفَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَلَغَ رُتْبَةً عَلِيَّةً مِنَ الْعِلْمِ لَمْ يَبْلُغْهَا غَيْرُهُ نَعَمْ بَلَغَهَا فِي الْفَلْسَفَةِ وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ الَّتِي لَا تُزِيدُ إِلَّا ضَلَالًا وَبَوَارًا. انْتَهَى كَلَامُهُ وَظَهَرَ مَرَامُهُ.

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْقِيلِ، وَهُوَ الْعِصَامُ الْجَلِيلُ بِمَا صَدَرَ عَنْهُ، وَمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ ضَلَالَةً، وَلَا يَسْتَوْجِبُ جَهَالَةً مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ فِي الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَى أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ الْأَدَبِيَّةِ، وَكَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّقَائِقِ التَّفْسِيرِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ مِمَّا كَانَ يُعْجِزُ عَنْ فَهْمِ كَلَامِهِ الْمُعْتَرِضِ فِي بَيَانِ مَرَامِهِ، وَالَّذِي لَاحَ لِي فِي مَعْنَاهُ عَلَى مَا قَصَدَهُ فِي مَبْنَاهُ أَنَّ مُرَادَ الْعِصَامِ لَيْسَ إِثْبَاتُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنَامُ عَلَى التُّرَابِ بَلْ غَرَضُهُ أَنَّهُ مَا كَانَ يَخْتَارُ الْفِرَاشَ رِعَايَةً لِحَظِّ نَفْسِهِ بَلْ مُرَاعَاةً لِلْغَيْرِ مِنَ الزَّوْجَةِ، وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَغَالِبُ الظَّنِّ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ النَّومَ عَلَى الثَّرَى مُخَالَفَةً لِلْهَوَى، وَزُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَتَوَاضُعًا لِلْمَوْلَى، وَتَذَكُّرًا لِمَقَامِ الْبِلَى، وَلِذَا أَعْجَبَهُ صُنْعَ الْمُرْتَضِي، وَكَنَّاهُ بِهِ مَدْحًا لِحَالِهِ، وَحُسْنِ فَعَالِهِ، وَلِذَا كَانَ يُعْجِبُ عَلِيًّا هَذِهِ التَّكْنِيَةُ أَحْسَنَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ قَوْلُ الْعِصَامِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ إِلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ سَبَبُ التَّكْنِيَةِ مُجَرَّدَ إِلْصَاقِ التُّرَابِ بِبَدَنِهِ الْمُبَارَكِ بَلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>