لَمْ يَكُنِ الْفُحْشُ لَهُ خُلُقِيًّا وَلَا كَسْبِيًّا، قَالَ الْقَاضِي: الْفَاحِشُ مَا جَاوَزَ الْحَدَّ، وَالْفَوَاحِشُ الْمَقَابِحُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الزِّنَا فَاحِشَةً، وَالْمُرَادُ: بِالْفَاحِشِ فِي الْحَدِيثِ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفِعْلِهِ، وَالْمُتَفَحِّشُ الَّذِي يَتَكَلَّفُ الْفُحْشَ وَيَتَعَمَّدُهُ فَنَفَتْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ بِهِ طَبْعًا وَتَكَلُّفًا ذَكَرَهُ مِيرَكُ (وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ: صَيَّاحًا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ سَخَّابًا بِالسِّينِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَفَعَّالٌ قَدْ يَكُونُ لِلنِّسْبَةِ كَتَمَّارٍ وَلَبَّانٍ وَبِهِ أُوِّلَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَقْصُودُ نَفْيُ الصَّخَبِ لَا نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ كَأَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَادَ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فَنَفَتْهُ عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ: نَفْيُهُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُقَالُ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي حَقِّهِ لَكَانَ كَامِلًا كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ مُبَالَغَةُ النَّفْيِ لَا نَفْيُ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَقِيلَ فِي الْآيَةِ صَحَّ الْمُبَالَغَةُ بِاعْتِبَارِ الْمُقَابَلَةِ لِلْعَبِيدِ الْمَوْجُودِينَ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُبَالَغَةِ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ أَصْلُ الْفِعْلِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْأَسْوَاقِ أَيْ: لَيْسَ مِمَّنْ يُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا حَتَّى يَحْضُرَ الْأَسْوَاقَ، لِذَلِكَ فَذِكْرُهَا إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهَا مَحَلَّ ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ لِذَلِكَ لَا لِإِثْبَاتِ الصَّخَبِ فِي غَيْرِهَا أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا انْتَفَى فِيهَا انْتَفَى فِي غَيْرِهَا انْتَهَى، وَالظَّاهِرُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ قَيْدٌ احْتِرَازِيٌّ فَإِنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ فِي الْقِرَاءَةِ
حَالَةَ الصَّلَاةِ وَيُبَالِغُ فِي إِعْلَانِهِ حَالَ الْخُطْبَةِ (وَلَا يَجْزِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ فَكَسْرِ الزَّايِ مِنْ غَيْرِ هَمْزَةٍ مِنَ الْجَزَاءِ أَيْ: لَا يُكَافِئُ وَلَا يُجَازِي (بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ) وَالْبَاءُ لِلْمُبَادَلَةِ، وَإِطْلَاقُ السَّيِّئَةِ عَلَى الْأُولَى لِلْمُشَاكَلَةِ كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَلِذَا قَالَتْ (وَلَكِنْ يَعْفُو) أَيْ: بِبَاطِنِهِ (وَيَصْفَحُ) أَيْ: يُعْرِضُ بِظَاهِرِهِ لِمَا سَبَقَ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَالصَّفْحُ فِي الْأَصْلِ الْإِعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ، وَالْمُرَادُ: هُنَا عَدَمُ الْمُقَابَلَةِ بِذِكْرِهِ وَظُهُورِ أَثَرِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ مَا قَبْلَ لَكِنْ رُبَّمَا يُوهِمُ أَنَّهُ تَرَكَ الْجَزَاءَ عَجْزًا أَوْ مَعَ بَقَاءِ الْغَضَبِ فَاسْتَدْرَكَهُ بِذَلِكَ.
وَمِنْ عَظِيمِ عَفْوِهِ حَتَّى عَنْ أَعْدَائِهِ الْمُحَارِبِينَ لَهُ حَتَّى كَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وَجْهَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَلَكِنْ بُعِثْتُ دَاعِيًا وَرَحْمَةً اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي أَوِ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيِ اغْفِرْ لَهُمْ ذَنْبَ الْكَسْرَةِ وَالشَّجَّةِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ (شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ اللَّهُمَّ امْلَأْ بُطُونَهُمْ نَارًا) فَلِأَنَّهُ كَانَ حَقَّ اللَّهِ فَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ وَمَا سَبَقَ مِنْ حَقِّهِ فَسَامَحَهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَجَلِّ أَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أَخْبُرْهُمَا مِنْهُ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَمْ أَمْتَحِنْهُمَا: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ أَيْ: لَوْ تُصُوِّرَ مِنْهُ جَهْلٌ أَوْ مُرَادُهُ بِالْجَهْلِ الْغَضَبُ وَلَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ؛ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ فَابْتَعْتُ مِنْهُ تَمْرًا إِلَى أَجَلٍ فَأَعْطَيْتُهُ الثَّمَنَ؛ فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ مَحَلِّ الْأَجَلِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ وَرِدَائِهِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ ثُمَّ قُلْتُ: أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمَّدُ حَقِّي فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُطْلٌ، فَقَالَ عُمَرُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَسْمَعُ فَوَاللَّهِ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute