للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ فَقِيرًا: وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنِ الشِّفَاءِ وَأَقَرَّهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا بِقَتْلِ مَنِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ، وَزَعَمَ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ لَأَكَلَهَا، وَأَمَّا خَبَرُ الْفَقْرِ فَخْرِيٌّ وَبِهِ افْتَخَرَ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحُفَّاظُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْأَلَمِ وَنَحْوِهِ مِنْ حِكَايَةِ الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْمَأْكُولِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّوَكُّلَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ شَكْوًى أَوْ جَزَعًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ الْفُتُوحِ، وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَاوِيًا أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الْقَضِيَّةَ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا، قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، نَعَمْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَلَّبُ فِي الْيَسَارِ تَارَةً، وَفِي الْعَسَارِ أُخْرَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ فَكَانَ إِذَا أَيْسَرَ يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ لِإِخْرَاجِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَكَذَا كَانَ خُلُقُ صَاحِبَيْهِ، بَلْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ (فَانْطَلَقُوا) أَيْ: ذَهَبُوا وَتَوَجَّهُوا (إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ) وَاسْمُهُ مَالِكٌ (ابْنِ التِّيهَانِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ عَتِيكُ بْنُ عَمْرٍو (الْأَنْصَارِيِّ) قِيلَ هُوَ قُضَاعِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَالْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لَهُمَا، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِذْ أَهَّلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ وَجَعَلَهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ صَدِيقِكُمْ (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو الْهَيْثَمِ (رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ) وَاحِدُهُ نَخْلَةٌ وَزِيدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَالشَّاءِ) بِالْهَمْزِ جَمْعُ شَاةٍ بِالتَّاءِ فَفِي النِّهَايَةِ أَصْلُ الشَّاةِ

شَاهَةٌ حُذِفَ لَامُهَا وَجَمْعُهَا شِيَاهٌ وَشَاءٌ وَتَصْغِيرُهَا شُوَيْهَةٌ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ، جَمْعُ خَادِمٍ، وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْجَمْعِ بَلِ الْإِفْرَادَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (فَلَمْ يَجِدُوهُ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى خُرُوجِهِ بِسَبَبِ خِدْمَةِ عِيَالِهِ، (فَقَالُوا لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟) وَهُوَ أَحْسَنُ عِبَارَةً مِنْ زَوْجِكِ (فَقَالَتِ: انْطَلَقَ) أَيْ: ذَهَبَ (يَسْتَعْذِبُ) أَيْ: لَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (الْمَاءَ) وَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْذَابَ طَلَبُ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَيُقَالُ: اسْتَعْذَبَ لِفُلَانٍ إِذَا اسْتَسْقَاهُ لَهُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ نَزْحُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْعَذْبُ الْمَاءُ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا مُلُوحَةَ فِيهِ، وَقَدْ عَذُبَ عُذُوبَةً وَاسْتَعْذَبَ الْقَوْمُ مَاءَهُمْ إِذَا اسْتَسْقَوْهُ عَذْبًا وَاسْتَعْذَبَهُ أَيْ: أَعَدَّهُ عَذْبًا، فَالْمَعْنَى يَجِيءُ لَنَا بِالْمَاءِ الْعَذْبِ وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ يُخْلِصُ الْحَمْدَ لِلَّهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ الْمُنْقِصِ لِمَقَامِ الْعُقْبَى، وَزَادَ مُسْلِمٌ: فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا (فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ) أَيْ: إِلَى أَنْ جَاءَ أَوْ لِأَنْ جَاءَ (أَبُو الْهَيْثَمِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ انْتِظَارٌ كَثِيرٌ، بَلْ وَقَعَ لَهُمْ مُكْثٌ يَسِيرٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهِ مِنْ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَاءَ (بِقِرْبَةٍ) أَيْ: أَتَى بِهَا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (يَزْعَبُهَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>