للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظِ مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَرَاءَى بِي.

وَاسْتُشْكِلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ مُتَّحِدَانِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ؟ .

وَأُجِيبَ بِأَنَّ اتِّحَادَهُمَا دَالٌّ عَلَى التَّنَاهِي فِي الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ: مَنْ أَدْرَكَ الضَّمَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْمَرْعَى أَيْ: أَدْرَكَ مَرْعًى مُتَنَاهِيًا فِي بَابِهِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتِي عَلَى كَمَالِهَا لَا شُبْهَةَ وَلَا ارْتِيَابَ فِيمَا رَأَى، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ وَزَادَ الْحَنَفِيُّ بِقَوْلِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ وَالْحَقُّ هُنَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَةَ الْحَقِّ، وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَالتَّتْمِيمِ لِلْمَعْنَى وَالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ، وَالتَّمَثُّلُ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ وَبِنَفْسِهِ وَبِاللَّامِ انْتَهَى.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ خُلَاصَةَ الْجَوَابِ وَالتَّحْقِيقِ فِي تَقْرِيرِ الصَّوَابِ أَنَّ الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَزُولُ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى حَقِيقَةَ صُورَتِي الظَّاهِرَةِ وَسِيرَتِي الْبَاهِرَةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي أَيْ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ بِشَكْلِي الصُّورِيِّ وَإِلَّا فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ التَّمَثُّلِ الْمَعْنَوِيِّ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا حَفِظَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ الْيَقَظَةِ مِنْ تَمَكُّنِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ وَإِيصَالِ الْوَسْوَسَةِ فَكَذَلِكَ حَفِظَهُ اللَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ وَأَنْ يَتَخَيَّلَ لِلرَّائِي بِمَا لَيْسَ هُوَ فَرُؤْيَةُ الشَّخْصِ فِي الْمَنَامِ إِيَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْزِلَةِ رُؤْيَتِهِ فِي الْيَقَظَةِ فِي أَنَّهُ رُؤْيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا رُؤْيَةُ شَخْصٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَمَثَّلَ بِصُورَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَتَشَكَّلَ بِهَا، وَلَا أَنْ يَتَشَكَّلَ بِصُورَتِهِ وَيَتَخَيَّلَ إِلَى الرَّائِي أَنَّهَا صُورَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا احْتِيَاجَ لِمَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صُورَةٍ كَانَتْ أَنْ يُعَبِّرَ هَذَا وَيَظُنَّ أَنَّهُ شَيْئٌ آخَرُ، وَإِنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا ذَكَرَ مِيرَكُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ قُلْنَا هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ تَرْجِعُ إِلَى اخْتِلَافِ حَالِ الرَّائِينَ لَا إِلَى الْمَرْئِيِّ كَمَا فِي الْمِرْآةِ فَمَنْ رَآهُ مُتَبَسِّمًا مَثَلًا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرُؤْيَتُهُ غَضْبَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَمَنْ رَآهُ نَاقِصًا يَدُلُّ

عَلَى نُقْصَانِ سُنَّتِهِ فَإِنَّهُ يَرَى النَّاظِرُ الطَّائِرَ مِنْ وَرَاءِ الزُّجَاجِ الْأَخْضَرِ ذَا خُضْرَةٍ وَقِسْ عَلَى هَذَا انْتَهَى.

وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَنِهَايَةِ التَّدْقِيقِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَرْجِعُ إِلَى مَحَلِّ الْمَرْئِيِّ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُئِيَ فِي قِطْعَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ كَأَنَّهُ مَيِّتٌ فَعَبَّرَهُ بَعْضُ الْعَارِفِينَ بِأَنَّ دُخُولَ تِلْكَ الْبُقْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ فَفُتِّشَ عَنْهَا فَوُجِدَتْ أَنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ حَصِينٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: حَقِيقَةً أَوْ حَقًّا أَوْ فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ رَآنِي أَوْ فَقَدْ رَآنِي وَلَمْ يَرَ غَيْرِي (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَصَوَّرُ) أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يَظْهَرَ أَوْ يَظْهَرَ بِصُورَتِي (أَوْ قَالَ لَا يَتَشَبَّهُ بِي) وَالشَّكُّ فِي غَيْرِ الْجَارِّ وَالتَّصَوُّرُ وَالتَّشَبُّهُ وَالتَّمَثُّلُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى وَإِنْ

كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْمَبْنَى هَذَا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَسَيَرَانِي وَأَنَّهُ أَتَى بِالصِّيغَةِ الْمَاضَوِيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ بِقَدِ التَّحْقِيقِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى كَمَالِ تَحَقُّقِهِ مَعَ أَنَّ الشَّرْطَ يُحَوِّلُ الْمَاضِيَ إِلَى الِاسْتِقْبَالِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْحَالِ فَيُوَافِقُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.

مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ.

فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى بِشَارَةِ الرَّائِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُصُولِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَوُصُولِهِ إِلَى رُؤْيَتِهِ فِي دَارِ الْمَقَامِ وَيُقَوِّيهِ مَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ بِلَفْظِ فَقَدْ رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ كَمَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَقِيلَ أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ زَمَانِهِ - صلّى الله عليه

<<  <  ج: ص:  >  >>