ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ ; الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُبَشِّرَاتِ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَمِنَ الرُّؤْيَا مَا يَكُونُ مِنَ الْمُنْذِرَاتِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ أَيْ: مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا تَجِيءُ عَلَى مُوَافَقَةِ النُّبُوَّةِ لَا أَنَّهَا جُزْءٌ بَاقٍ مِنْهَا، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، أَيْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ خَصْلَةً، وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَوْلُهُ مِنَ الرَّجُلِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ اتِّفَاقًا، فَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ، فَقِيلَ كَانَ زَمَانُ نُزُولِ الْوَحْيِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ مُؤَيَّدًا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الصَّادِقَةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ كَانَتِ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ زَيَّفَ الْمُحَقِّقُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: مَا حَصَرَ سِنِيِ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُعْتَدُّ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِ ذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُ زَمَانِ الرُّؤْيَا فِيهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَشَيْءٌ قَدَّرَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُسَاعِدْهُ النَّقْلُ قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: وَأَرَى الذَّاهِبِينَ إِلَى التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَدْ هَالَهُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَهَبَتِ النُّبُوَّةُ، وَلَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ جُزْءَ النُّبُوَّةِ لَا يَكُونُ نُبُوَّةً كَمَا أَنَّ جُزْءًا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الِانْفِرَادِ، لَا يَكُونُ صَلَاةً، وَكَذَلِكَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا وَجْهُ تَحْدِيدِ الْأَجْزَاءِ
بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، فَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنْ يُجْتَنَبَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَيُتَلَقَّى بِالتَّسْلِيمِ ; لِكَوْنِهِ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تُقَابَلُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجَسٍ فِي السَّمْتِ الْحَسَنِ وَالتُّؤَدَةِ وَالِاقْتِصَادِ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَلَّمَا يُصِيبُ مُئَوِّلٌ فِي حَصْرِ الْأَجْزَاءِ، وَلَئِنْ قُيِّضَ لَهُ الْإِصَابَةُ فِي بَعْضِهَا لِمَا يَشْهَدُ بِهِ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهَا لَمْ يُسَلَّمْ لَكَ فِي الْبَقِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ لَمَّا سُئِلَ أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ أَبِالنُّبُوَّةِ تَلْعَبُ، ثُمَّ قَالَ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهَا نُبُوَّةٌ بَاقِيَةٌ، بَلْ أَنَّهَا لَمَّا أَشْبَهَتْهَا مِنْ جِهَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَكَلَّمَ فِيهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَلِذَلِكَ الشَّبَهِ سُمِّيَتْ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْجُزْءِ لِشَيْءٍ إِثْبَاتُ الْكُلِّ لَهُ، كَمَا مَرَّ تَحْقِيقُهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا ابْتُلِيتَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْخِطَابُ عَامٌّ أَيِ امْتُحِنْتَ (بِالْقَضَاءِ) أَوْ تَعَيَّنْتَ لَهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحُكُومَةَ وَالْقَضَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلِهَذَا اجْتَنَبَ عَنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْأَتْقِيَاءِ (فَعَلَيْكَ بِالْأَثَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: بِاتِّبَاعِ أَثَرِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَا بِاقْتِدَاءِ الْأَخْبَارِ مِنَ الصَّحَابَةِ لِقَوْلِهِ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَعَلَيْكَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمْهُ وَيُزَادُ الْبَاءُ فِي مَعْمُولِهِ كَثِيرًا لِضَعْفِهِ فِي الْعَمَلِ، قَالَ مِيرَكُ: وَالْأَثَرُ بِالتَّحْرِيكِ مِنْ رَسْمِ الشَّيْءِ، وَسُنَنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثَارُهُ انْتَهَى.
وَلَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ نَاسَبَ وَصِيَّةَ الْقَاضِي بِاتِّبَاعِ الْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ إِيرَادَ هَذَا الْأَثَرِ، وَمَا فِي أَثَرِهِ مِنَ الْخَبَرِ الْآتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُلَاءَمَتِهِ لِعُنْوَانِ الْبَابِ لِلِاهْتِمَامِ لِشَأْنِ عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذِ مِنَ الثِّقَاتِ فِي بَابِ الرِّوَايَاتِ، وَلِلنَّصِيحَةِ فِي التَّوْصِيَةِ كَابْتِدَاءِ أَكْثَرِ كُتُبِ الْحَدِيثِ بِخَبَرِ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَلِلْحَدِيثِ الْآتِي مُنَاسَبَةٌ خَفِيَّةٌ لِلرُّؤْيَةِ ; وَهِيَ أَنَّهُ وَرَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أَعْتَبِرُ الْحَدِيثَ، وَمُرَادُهُ كَمَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا عَلَى الْحَدِيثِ وَيَجْعَلُ لَهُ اعْتِبَارًا كَمَا يُعْتَبَرُ الْقُرْآنُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا مِثْلَ أَنْ يُعَبِّرَ الْغُرَابَ بِالرَّجُلِ الْفَاسِقِ وَالضِّلْعَ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمَّى الْغُرَابَ فَاسِقًا، وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ كَالضِّلْعِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ) وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِمَا سَبَقَ (قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ) أَيْ: هَذَا التَّحْدِيثُ، أَوْ عِلْمُ الْحَدِيثِ، أَوْ جِنْسُ الْحَدِيثِ (دِينٌ) أَيْ: مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُتَدَيَّنَ بِهِ، وَيُعْتَقَدَ، أَوْ يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ (فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute