للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المنبر، فَلَمَّا دخلتُ من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحبا بِمُعَلِّمِي؛ أفسحوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتِ الأعناقُ إليَّ، وَحَدَّقَتِ الأبصارُ نحوي، - وتعرفني: يا أبا بكر يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلَّم عليه أحد، أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحْمَرَّ حتى كأنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ - قال: وتبادر الناس إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني حتى بلغتُ المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بُقْعَةٍ أنا من الأرض، والجامع غَاصٌّ بأهله، وأسال الحياءُ بدني عَرَقًا، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا مُعَلِّمكم، وهذا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كان بالأمس قلتُ لكم: آلَى رسولُ اللَّه وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فما كان أحد منكم فَقِه عني، ولا رَدَّ عليَّ، فَاتَّبَعَني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائبٌ عن قولي بالأمس، وراجعٌ عنه إلى الحق؛ فَمَنْ سمعه مِمَّنْ حضر فلا يُعَوِّلْ عليه. وَمَنْ غاب فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حضر؛ فجزاه اللَّه خيرًا؛ وجعل يَحْفُلُ في الدعاء، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنون (١).

سبحان مَنْ أدَّب هؤلاء، ووفقهم للصواب، وألهمهم إياه!!

إنَّ هذا من المواقف التي يقف المتأمل فيها حيرانًا من هؤلاء الأعلام، فأيهما أعظم موقفًا، وأنبل من صاحبه؟!

محمد بن القاسم الذي التزم الأدب مع شيخه، ولم يُهَلِّل فرحًا بحصوله على خطئه، ولم يقف على الملإ لإظهار خطإ شيخه لعلو شأنه، وإظهار مكانته في العلم، وهو غريب بين الناس، وكذلك لم


(١) أحكام القرآن لابن العربي المالكي (١/ ٢٤٩) ط دار الكتب العلمية.

<<  <   >  >>