وإذا قلت:"وجه جِنّي، أو مَلَك" لم يستطع أن يثبت في نفسه صورة؛ لأنه لم يحس بملك أو جني، ولا بما يعلم مشابهته له في الشكل ولو في الجملة، إلا أن وهمه ينازعه إلى صورة الإنسان، إذا كان قد علم أن الملائكة والجن كالناس في أنهم عِبادٌ أحياء عقلاء. ولكن عقله يدفع ذلك بأن الملائكة والجن وإن شاركوا الناس في تلك (١) الصفات وغيرها فليسوا من جنس الناس، والمشاركة في بعض الصفات لا يستلزم المشاركة في كل شيء، كيف وقد عَلِم المفارقة في أصل الجنس؟ !
فإن أخبره صادقٌ بأن للملَك أجنحة، فله أحوال:
الأولى: أن يكون يرى أن للملك ذاتًا مُشَخَّصة تقابل ما يسمَّى للحيوان الأرضي: جسمًا، فهذا يقع في وهمه أولًا أنها كأجنحة الطير المعروفة، ثم يدفع هذا [ص ٥] بما سمعه من صفات الملائكة: أنهم عِباد عُقلاء عُلْويون مقرَّبون إلى ربّ العالمين، أولو قدرة عظيمة، وغير ذلك، فيعلم أنهم ليسوا من جنس الطير المعروفة، فلعله إنما يستقرّ في ذهنه أنَّ للملك أطرافًا من ذاته لو رآها إنسان لأطلق عليها: أجنحة.
الثانية: أن يكون يرى أن الملَكَ ذاتٌ مجردة عن المادة ألبتة، كما تقوله المتفلسفة؛ فإنه يتردد ويتحَيَّر، وأقصى ما عنده أن يتأوَّل الأجنحة على القُدْرة، أو نحو ذلك من التأويلات.
الثالثة: أن يكون خالي الذهن عن التجسد والتجرد، وهذا إذا سمع الصفات التي إنما عرفها للأجسام يقع له ما يقع للأول.
(١) الأصل: "بعض تلك" وعلى "بعض" آثار شطب، ورجحتُ أنه ضرب عليها، ثم أضاف "وغيرها".