فضل منه، فقال:"ولاك اسقني"، وقد أراد الشاعر بهذا أن يؤكد أنه يجوب فلاة مهلكة ضالة، فالذئب هو ابن الصحراء، والخبير بطرقها يجهل فيها موضع الماء، وجاء قوله:"ولاك اسقني" على الحذف كما ترى؛ لأنه أراد ولكن اسقني، فحذف آخر الكلمة طلبا للخفة لمناسبة حال الذئب الظامئ المتهالك في هذه الصحراء الموحشة التي يجتازها الشاعر، كأن الذئب فيها قد تعثر لسانه، ويبس فخطف الكلمة، فأسقط منها ما أسقط.
وانظر إلى قول لبيد:
"درس المنا بمتالع فأبانا" ... أراد درس المنازل
والنحاة والبلاغيون يذكرون هذا البيت في الحذف الشاذ والضرورة؛ لأنه ظلم الكلمة بحذف أكثر من حرف، ويمكن أن نقول: إن الحذف في كلمة المنازل التي يتحدث عن دروسها، وتغيير القدم لمعالمها مناسب؛ لأنها بقيت آثارًا، وكأن الحذف فيه إشارة إلى المضمون الذي يريد بيانه، وهو أن المنازل بقايا لا يستدل عليها إلا بالقرائن والشواهد، فالحذف في اللفظ وثيق الصلة بالمعنى.
لم لا تكون السليقة اللغوية هدت لبيدا إلى هذه المناسبة اللطيفة، وهو حجة في اللغة وفقه أسرارها.
فإذا نظرنا إلى قول علقمة بن عبدة:"من البسيط"
كأن إبريقهم ظبي على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم
يريد بسبائب الكتاب، فربما لا نجد سرا وراء هذا الاقتطاع أكثر من أن الشاعر يعلم يقينا أن مراده ظاهر جدا؛ لأن ذكر سبائب الكتان في هذا السياق كثير، كلما ذكر الإبريق مشبها بالظبي رأيتهم يذكرون سبائب الكتان، فالحذف أكسب الكلمة خفة، ولم يلبس معناها.
والشاعر يعول على السياق كثيرًا بل إن اللغة في معظم دلالاتها إنما تعتمد على السياق، ألست ترى الشعراء يأتون بالجمل مثبتة، وهم يريدونها منفية ثقة منهم بفهم السامع، واعتمادًا على السياق، فامرؤ القيس يقول: