للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

اليأس ومعاناة الهول معناة شغلتهم عن إتمام الكلمة، ومن هذه الإشارات ما حكاه قوم من أصحاب الكتب -كما قال ابن رشيق في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالسيف شا": أراد شاهدًا فحذف، وقالوا في تعليل ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصير هذا الخبر حكما شرعيا، فقطع الكلام وأمسك عن تمامه، وسواء صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح فالثابت لنا منه أن الدارسين أدركوا أن وراء حذف جزء الكلمة إشارة نصبت دليلا على شيء.

وقد أشار الأخفش إلى أن هذا الحذف قد ينتفع به في الدلالات المعنوية، لما سأله المؤرج السدوسي عن قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ١ أي عن حذف حرف العلة فيه من غير ناصب ولا جازم، قال الأخفش: "عادة العرب أنها إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري، وإنما يسري فيه نقص منه حرف، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} ٢، الأصل بغية فلما حول عن فاعل نقص منه حرف"، والحذف هنا دليل على شيء في المعنى أي في دلالة اللفظ على معناه، وواضح أن الذي ذكره الأخفش في هذا ليس قاعدة، وإنما هو تصرف قد يكون منهم في مثل هذا الذي ذكره، وكم من كلمات عدل بها القوم عن معناها، وبقيت في لسانهم كما كانت قبل أن يعدل بها، وصور المجاز كثيرة، وكلها عادل عن المعنى.

فإذا ارتدنا هذا الحقل معتمدين تلك الإشارات التي قد يرفضها البعض، وحاولنا التعرف على الأسرار المعنوية وراء بعض هذه الحذوف، فإنه لا يخطئنا التوفيق في كثير منها، ولنقرأ قول النجاشي على لسان الذئب: "من الطويل"

فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

وقد زعم أنه أراد أن يصطحب الذئب في فلاة، وأن الذئب رفض هذه الصحبة، وقال: "لست بآتيه ولا أستطيعه"، ثم طلب منه ماء إن كان عنده


١ الفجر: ٤.
٢ مريم: ٢٨.

<<  <   >  >>