للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

والغضا شجر في ديار أهله، والشاعر في هذه الحالة القاسية التي يستشعر فيها دنو الأجل، ويستعر فيها الإحساس بالغربة، ويفيض فيها الحنين والتعلق بالأهل، تراه مرتبط النفس بالغضا أقوى ما يكون الارتباط، فيتشبث باللفظ فيذكره ويكرره، كما ترى وكأنه يمتص منه آخر رحيقه؛ وليس من الوفاء بالحس في هذه الحالة الاكتفاء بالضمير، وإن كانت الدلالة واضحة؛ لأن اللفظ يحمل معنى له في سريرة نفس الشاعر ما يظمئه إليه، فلا بد من تكراره، وتأمل أماشي في قوله: وليت الغضا ماشي الركاب لياليا- وكأنه كان يتمنى لو رحلت معه ديار قومه، وماشى الركب والأهل والأرض، والشجر والمدر، كل ذلك تتفجر روحه بالحنين إليه، وهو يجود بها.

ومن هذا الباب أن يذكر الشاعر اسم صاحبته ثم يكرره، وكان يمكنه الاستغناء بضميره، ولكنه يؤثر النص عليه؛ لأن في ذلك ما يثير أشواقه، ويلذ قلبه، انظر إلى قول قيس: "من الطويل"

ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هيا

ذكر لبنى في الشطر الثاني، وكان يمكنه أن يكتفي بقوله: ولم تلقني ولم أدر ما هيا، ولكن الشاعر يحرص على ذكر الاسم؛ لأنه يحبه ويحب أن ينطق به، ومثله قول الآخر: "من الطويل"

منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

أماني من ليلى حسان كأنما ... سقتك بها ليلى على ظمأ بردا

وقد ذكر الشعراء السر البلاغي لهذا اللون من الذكر، وهو حبهم المتعلق بالملهوف بهذه الأسماء، فهم يجدون فيها ما يروي قلوبهم، ويحبون المكان القفر ليتغنوا فيه بأسماء من يحبون وهم في مأمن من اللوم، يقول ذو الرمة: "من الطويل"

أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم

<<  <   >  >>