للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هنا يشير إلى أنه ما من دابة قط في أي شعب من شعاب الأرض، وفي أي مجهل من مجاهلها، وما من طائر قط يطير في أي أفق من آفاق السماء إلا أمم أمثالكم، وهذا دال على غاية الحكمة والإتقان، وعموم النظام، وبسط الملك وتمام السلطان.

وقد يدل مقام الحديث على الإفراد، فتتمحض النكرة للدلالة عليه من غير أن يمحضها لذلك وصف كما في الآيتين السابقتين، مثال ذلك قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} ١، أي فرد من أشخاص الرجال، وقد يدل مقام الحديث على إرادة النوعية، فتتمحض النكرة للدلالة عليه كقوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} ٢، أي جنس من الأغطية، ونوع منها غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله سبحانه، قالوا: ومما يصلح للإفراد أو النوعية قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} ٣، يصلح للإفراد فيكون المعنى: خلق كل نوع من أنواع الدواب، وجنس من أجناسه من نوع من أنواع المياه، وجنس من أجناسه.

هذان هما المعنيان الأساسيان للتنكير، ويردان على ما ذكرنا، ثم إن التنكير، أعني كون الشيء مجهولا ومنكورا، معنى شامل وعميق صالح، لأن يتولد منه معاني كثيرة، وذلك إذا أجراه في التعبير بصير بأحوال الكلمات خبير بسياسة التراكيب، وقد أكد عبد القاهر على أن المهارة، والبراعة في إشباع هذه الخصوصيات بالمعاني، والإشارات هي التي بها يستحق الشاعر الفضل.

أقرأ قول أبي السمط، وهو من الشواهد المشهورة: "من الطويل"

له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب

تأمل التنكير في كلمة حاجب في شطري البيت، واعتبر في تأملك المغزى، ومراد الشاعر، وسوف تجد أن التنكير في الحاجب الذي يحجبه عن الخلال الشائنة ينبغي أن يكون حاجبًا عظيمًا يباعد بينه، وبينها حتى لا يقربها، ولا يكاد،


١ القصص: ٢٠.
٢ البقرة: ٧.
٣ النور: ٤٥.

<<  <   >  >>