للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وأن نفي الحاجب الذي يحول بينه، وبين ذوي الحاجات لا بد أن يتوجه النفي هنا إلى أي حاجب مهما ضؤل ليبين أن ليس بينه، وبين قاصديه حجاب ما، ولو كان ساترًا رقيقًا، التنكير إذن في الأول للتعظيم وفي الثاني للتحقير، والكلمة واحدة، والسياق العام واحد، ولكن لكل كلمة في موقعها مقام يختلف عن الأخرى.

واقرا قول إبراهيم بن العباس: "من الطويل"

فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب ... وسلط أعداء وغاب نصير

تكون عن الأهواز داري بنجوة ... ولكن مقادير جرت وأمور

تجد أنه نكر دهرًا ليشير بهذا إلى أنه دهر منكر مجهول، فليس هو الدهر الذي عهده الشاعر في أيام نعمته، وولايته على الأهواز، وقد كان الشاعر عاملا عليها

من قبل الواثق بالله، ثم عزل في وزارة محمد بن عبد الملك الزيات، فهو ضائق شجر بدهر غادر، وصاحب خائن، وقد أراد بقوله: "وأنكر صاحب": أنكرت

صاحبًا، ولكنه جاء على هذا الأسلوب حتى لا يسند إنكار الصاحب إلى نفسه صريحا في اللفظ، وإن كان صاحبا لئيما محتقرا غير معروف بالصحبة، ولا مشهور بخلالها، وتنكير الأعداء في قوله: "وسلط أعداء"، وفيه معنى التحقير وقلة الشأن، وأنهم ليسوا من مشاهير الرجال، ورمز ببناء الفعل للمجهول في قوله، وسلط إلى أنهم أداة في أيدي غيرهم لا يملكون من أمرهم شيئًا، فهم لا يستطيعون عداوتي إلا إذا دفعوا إلهيا من مجهول ساقط، ومما حسن فيه تنكير المسند إليه قول ابن المعتز:

وإني على إشفاق عيني من العدا ... لتجمح مني نظرة ثم أطرق

فقد نكر النظرة التي جمحت منه إلى صاحبته ليشير بهذا إلى أنها نظرة من نوع خاص، نظرة ظامئة شرود، تجمح منه جماحًا لا يستطيع معه حبسها مهما بلغ إشفاقه وخوفه من الرقباء، وانظر إلى قوله: ثم أطرق، وكيف أفادت كلمة، ثم التي تفيد التراخي: أن هذه النظرة الجامحة لم تعد إلا بعد

<<  <   >  >>