وكذلك هذا الالتفات في الكلام، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات".
وتفسير الشجاعة هنا بإقدام اللغة العربية على طريق من التعبير لم تقدم عليه غيرها من اللغات فيه شيء من المجازفة؛ لأن هذه الخصوصية تصف حالة، أو شعورا إنسانيا عاما، والقول بأن المتكلمين بغير العربية لم يجدوا في نفوسهم هذه الحالة التي تدعو الإنسان إلى مخاطبة نفسه، أو تدعوه إلى أن يصرف القول عن مخاطبه، أو أن يقبل بالخطاب على من ليس في حضرته، قول بعيد، والذي نراه أن الشجاعة هنا إقدام على أنماط من التعبير مخالفة لما يقتضيه الأصل؛ لأنها تعبير بأسلوب الخطاب في سياق الغيبة، وذكر الغيبة في سياق الخطاب، وهكذا، والمعتمد عليه في ذلك سياق الكلام وشفافية الدلالة، وهذا إن تأملته ضرب من الشجاعة، واقتحام سبيل غير السبيل المألوف، وتفسيرنا هذا لشجاعة العربية هو ما يتلاءم مع ما ذكره ابن جني في باب سماه: "شجاعة العربية"، وأراد به الحذف والتقديم، والحمل على المعنى، وغير ذلك مما هو خلاف الأصل، ولا ضير في أن يقودنا هذا التفسير إلى أن نعد كثيرا من فنون التعبير من شجاعة العربية، والمهم في كلام ابن الأثير أنه يقول: إنك ترى الكلام بهذا الفن البلاغي يلتفت ههنا وههنا، وكأن الأسلوب حي يتحرك ويتلفت، ونشاط اللغة وحيوتها عند ابن الأثير باب واسع تراه يصف الكلمات أحيانا بأنها جيش له جلب، وأحيانا بأنها حسان رود لها دل إلى آخره.
هذا وقد اشتهر في تحديد الالتفات مذهبان:
مذهب الجمهور، ومذهب السكاكي.
أما الجمهور فيقولون في تحديده: إنه التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها، والطرق الثلاثة هي: التكلم والخطاب، والغيبة.