للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

بيانها بقوله: "إن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان أحسن نظرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد كرر هذا المعنى كثيرا كما كرره البلاغيون بعده، وهي فائدة ذات قيمة كبيرة في الأسلوب؛ لأن إيقاط الحس وإثارة الملكات من أبرز العناصر التي تتوفر في الكلام المختار، وينبغي أن نذكر هذه المزية في كل صورة من صورة الالتفات كما قلنا، وكنا في الشواهد السابقة مهتمين بالدلالات الخاصة التي هي ولائد السياق، والتي تختلف تبعا لذلك، ولا يجوز لك أن تغفل هذا الأصل مع كل شاهد، فتقع في التقصير الذي وقعنا فيه.

وبعد، فإنه ينبغي قبل أن ندع هذا الموضوع أن ننبه إلى أمر مهم، هو أن القول بالانتقال في الأسلوب حين يكون بين أبيات ينبغي أن يؤخذ بمزيد من الحيطة، وخاصة إذا كانت هذه الأبيات من الشعر الجاهلي، أو شعر البوادي في صدر الإسلام، وعهد بني أمية وذلك؛ لأن ترتيب الأبيات -وهو أساس الاستشهاد- قد حدث فيه تغيير كثير، ولهذا وجبت مراجعة الأبيات، وتحقيق مواقع بعضها من بعضها، وإلا كان النظر ضربا من العبث، خذ مثلا لذلك قول ابن الدمينة، وهو من شعراء البادية: "من الطويل"

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجد على وجد

أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى ... على فنن غض النبات من الرند

بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن ... جليدا وأبديت ما لم تكن تبدي

وقد زعموا أن المحب إذا دنا ... يمل وأن النأي يشفي من الوجد

بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد

تجد الشاعر يجري الكلام على طريقة المخاطب في قوله: "بكيت كما يبكي الوليد"، وقد أراد نفسه، وفي البيت الآخر يقول: "بكل تداوينا فلم يشف ما بنا"، واضح أن البيت يضعف لو قال: بكل تداويت وأجراه على أسلوب الخطاب؛ لأنه يصف ما يجده مع هذا الدواء الذي زعموا أنه يشفي من

<<  <   >  >>