للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الوجد فلو أجراه على طريق الخطاب لكان كأنه يقول لمخاطبته: إنك لم تشف من الوجد بعد تجربة الدواء، والوجد داء السرائر المضمرة لا يحس به علة، وشفاء إلا من يعاني لواعجه، طريق التكلم هنا يقوي صدق الخبر، ومن هنا كان الخطاب هو أسلوب البيت الأول: لأنه عتاب على بكاء، وأشجان أثاره هتاف الحمامة، وعتابك الباكي في مثل هذا مما هو شائع، ويلاحظ أنه قال: أإن هتفت ورقاء فأدخل همزة الإنكار على السبب الذي هو هتاف الورقاء، ولم يقل أبكيت لأن هتفت ورقاء؛ لأنه لا ينكر عليه البكاء، فله أن يبكي أحبابه وذلك لا ينكر، وإنما المنكر أن يسلم نفسه لما يحيط به من كل ما يعين على تذكر أيامه الخوالي؛ لأنه ما دام كذلك فلن يرقأ له دمع، وكأنه لا يطلب منه التجلد وعدم البكاء؛ لأنه يعلم أن ذلك مما لا سبيل إليه، وإنما يطلب منه قدرا من التماسك يحفظ به نفسه، فلا يندفع اندفاع الطفل في بكائه لهتفة حمامة أو لمعة برق، وهذا معنى جليل يذهب كله لو قال: أبكيت.

والمهم أنك حين تنظر نظرة دقيقة ينكشف لك ضرب من الملاءمة الدقيقة الجليلة بين المعنى والطريق المعبر عنه، وإياك أن يقع في وهمك أنني أقول: إن في قوله: بكل تداوينا، التفاتا، من الخطاب في قوله: بكيت؛ لأني سقت الأبيات شاهدا على غير ذلك، وسقته شاهدًا على ما يمكن أن يقع فيه الباحث من خطأ إذا أخذ برواية واحدة في الشعر في العصور التي أشرنا إليها.

فهذه الأبيات وردت بهذا الترتيب المذكور في حماسة أبي تمام، وفي دوان ابن الدمينة ذكر قوله: وقد زعموا أن المحب إذا دنا، وما بعده، قبل قوله: ألا يا صبا نجد بخسمة أبيات، وفي ذيل الأمالي قوله: ألا يا صبا نجد لابن الطثرية، وفي مطالع البدور نرى قوله: الا يا صبا نجد، وقوله: بكيت كما يبكي، وقوله: وقد زعموا، وقوله: وبكل تداوينا، منسوبا كل ذلك إلى ابن الطثرية، وفي مسالك الأبصار قوله: وقد زعموا وما بعده، منسوب لقيس بن الملوح وغير ذلك مما لا نستقصيه، وهذا هو الذي دفعني إلى القول بأن دراسة علاقات المعاني بين الأبيات، وصلات الخصائص البلاغية بعضها ببعض في الشعر لا بد أن يكون مسبوقا بجهد واع وكبير، وقد رأينا نموذجا لهذا العمل في دراسة للعلامة محمود شاكر لقصيدة، إن بالشعب الذي دون سلع، وهو في تقديرنا نموذج يحتذى في هذا الباب.

<<  <   >  >>