للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

في اضطراب تركيب الكلمات، قال يمدح إبراهيم المخزومي، وهو خال هشام بن عبد الملك: "من الطويل".

وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه

وأصل العبارة: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، فتعسف في التركيب، والتوى في التعبير، وقدم وأخر، وأجهدنا في فهم هذا المعنى الذي لا يساوي شيئا، وأحسب أن الفرزدق وهو شاعر فحل يعرف طبائع اللغة، وعوائد التراكيب إنما فعل ذلك تهكما بالمدح والممدوح، وولاء الفرزدق للعلويين، وعداؤه لبني أمية والممدوح منهم يغير بهذا الظن، وقد جرت عادة الشعراء على تثقيف الشعر، وصقله في خطاب الملوك ومن في طبقتهم.

وهذا الضرب يسميه البلاغيون التعقيد اللفظي، وهو يقابل التعقيد المعنوي الذي يراد هو ألا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني هو المعنى المراد، ومن الضروري أن تكون العلاقة بين الصورة، والمراد منها علاقة بينة مكشوفة، فإذا قلت: فلان كثير الرماد انتقل الذهن إلى معنى الكرم بسرعة، وكذلك إذا قلت: فلانة نئومة الضحى انتقل الذهن إلى معنى الرفاهية، وهكذا لم يتوقف الإدراك عند الدلالة المباشرة، ولكنه يثب منها إلى المراد، فإذا سمع من يألف اللغة قول ذي الرمة: "وساق الثريا في ملاءته الفجر" فهم منه انبساط ضوء الصبح، وإذا سمع قول الغنوي في ناقته: يقتات شحم سنامها الرحل، فهم منه كثرة الأسفار، وإذا سمع قول البحتري ليعقوب بن أحمد: تجرح أقوال الوشاة فريصتي، فهم منه أنه أوذي بقالة السوء، أو قوله: "من الطويل":

ولما نبت بي الأرض عدت إليكم ... أمت بحبل الود وهو رمام

لم يفهم من: نبت بي الأرض إلا معنى القلق والاضطراب، ولم يفهم من حبل الود الرمام إلا صداقة قديمة يعول عليها.

وهكذا لم يقف عند الدلالة الصريحة القريبة، أو النصيبة كملاءة الفجر التي

<<  <   >  >>