للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يسوق فيها الثريا، أو الرحل الذي يقتات من شحم السنام، أو الأقوال التي تجرح لحمة الكتف، وإنما يقع خاطر بسرعة على المراد، وذلك؛ لأن المسافة بين المعنى النصي، والمعنى المجازي مسافة وضيئة يسلك العقل فيها سبيلا مسيرا، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك، فيقع الشاعر في تعقيد، والتواء حين يستخدم صورة لمعنى غير واضحة الدلالة عليه، مثال ذلك أنهم استعملوا جمود العين للدلالة على بخلها بالدموع عند إرادة البكاء، فلما استعملها الشاعر في الدلالة على ذهاب الحزن، وقرار العين وسرور النفس كان ذلك تعقيدا؛ لأن الذهن لا ينتقل من جمود العين إلى معنى السرور، وإنما ينتقل من جمود العين إلى معنى الضيق، والامتلاء بالحزن وهذا هو سبب عيبهم لقول العباس بن الأحنف: "من الطويل":

سأطلب عد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

أراد أن يقول: سأطلب فراقكم لأنعم بقربكم، وسأبكي عليكم لأنعم بلقائكم ولتقر عيني بهذا اللقاء، بجعل قوله: "لتجمدا" كناية عن قرار النفس باللقاء والسرور، وهذا لم تألفه طرائق التعبير؛ لأن الجمود -كما قلنا- معناه البخل عند الحاجة، قالوا: ناقة جماد أي لا لبن فيها، وسنة جماد أي لا خير فيها، وكذلك العين الجمود، قال ابن يسار: "من الطويل":

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود

فالجمود إذن لا يشير إلى السرور، ولا يحمل إلى النفس شيئًا في معنى الغبطة باللقاء، ولهذا كان ظله في البيت ظلا وخيما، وطريقه إلى المعنى طريقا كدرًا.

أما فصاحة المتكلم فهي: تلك الموهبة التي يستطيع بها المتكلم أن يعبر تعبيرا صادقا قويا عن أفكاره، وأغراضه ومشاعره، وهذه الموهبة تكتسب بكثرة المران والدرابة، والمعايشة للأساليب الممتازة، وحفظ كثير من الشعر والنثر حفظا واعيا يستوعب معانيه، ويستغرق في آماده، ويذهب في أوديته، وهذا الوعي، وهذا الاستغراق هو الوسيلة لتربية النفس التي تشعر شعورًا صحيحًا

<<  <   >  >>