للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وصادقًا، وتتتامل تأملا مستبطنا، وتتلقى الأشياء والتجارب، والأحداث تلقيا واعيا، فإذا وصفت ما تجد جاء وصفها قويا واضحا.

أما البلاغة فإنها لا تأتي وصفا للمفرد، فلا يقال: كلمة بليغة إذا أريد بالكلمة لفظ مفرد، وإنما يقال: كلمة بلغية إذا أريد بالكلمة القصيدة أو الخطبة، ويصح أن نطلق الكلمة على القصيدة، فنقول: كلمة الحويدرة، أو كلمة زهير.

وتقع البلاغة وصفا للكلام والمتكلم، فبلاغة الكلام أن يكون مطابقا لمقتضى الحال مع فصاحته، أي أن يكون التعبير فيه خصائص في الصياغة، وأوضاع في التراكيب، تدل هذه الخصائص وهذه الأوضاع على معان يكون بها الكلام وافيا، ومطابقا لما يتطلبه الموقف الداعي.

فحين يكون المقام داعيا الى التنويه برجل تتحدث عنه، أي حين تنفعل نفسك بمآثره وأخلاقه تقول: هو الرجل، فتذكره معرفا بهذه الأداة التي تكسبه في سياق العناية به وصف الرجولة الصادقة والكاملة، وكأنك توهم أن الرجولة بكل أوصافها، تتحقق فيه ويشتهر بها، حينئذ نقول: إن التعريف جاء مطابقا لمقتضى الحال أي مقتضى المقام: لأن المقام يتطلب التنويه، والإشادة لما هتفت دواعي النفس بذلك، فوقع الكلام وفيه خصوصية تعين على إفادة هذا المعنى، ومثل ذلك أنك تجد الطريق، وقد ملأه الناس سائرين فيه، فيقع في نفسك أن هذا الطريق كأنه هو الذي يسير، فلا تقول: سار الناس في الطريق، وإنما تقول: سار بهم الطريق، والتعبير الثاني أكثر ملاءمة لحالة نفسك التي أحست، أو خيل إليها أن الطريق سير، لا أريد لك أن تكذب في التعبير، وأن تدعي أنك تحس هذا، وإنما أقول لك: إنك حين تحس أن الطريق يمور، ويتحرك يكون قولك: سار بهم الطريق، مطابقا لما يتطلبه حال النفس الداعي إلى الوصف الصادق، وإذا قلت: سار الناس في الطريق، لا تكون العبارة مستوفية لإحساسك بكثرة السير حتى كأن كل بقعة في الطريقة عليها إنسان يسير، والعبارة إذن ليست مطابقة لمقتضى الحال، وعكس هذا إذا كنت

<<  <   >  >>