للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

لم تحس هذا الإحساس، وإنما رأيت ناسًا يسيرون، ولم يقع في نفسك شيء وراء ذلك يكون من الكذب في الوصف أن تقول: سار بهم الطريق؛ لأن الطريق لم يسر بهم، أو؛ لأن نفسك لم تحسب سير الطريق بهم، والتعبير الملائم أن تقول: سار الناس في الطريق، تصف وصفا تقريريا لا عاطفة فيه؛ لأن الذي رأيته ليس

له بعد وراء هذا، والذي أريد أن أقرره أن المطابقة تعني أولا المطابقة لحال النفس والشعور، ولذلك يكون التهويل، والكذب على النفس مخالفا للمطابقة، وخارجا عن حد البلاغة، المطابقة إذن تعني الصدق، والوفاء بما في النفس، أو كما قال العلوي: "أن تصل عبارتك كنه ما في قلبك".

والحال عند البلاغيين هو الأمر الذي يدعو المتكلم إلى أن يعتبر في كلامه خصوصية ما، أي هو ذلك الداعي الذي يهتف بالفطرة الصادقة إلى أن تجري صياغة العبارة على طريق دون آخر، فالخنساء لما استعر في ضميرها الحزن الكارب على موت صخر قالت: "من البسيط":

فما عجول لدى بو تطيف به ... لها حنينان إعلان وإسرار

أودى به الدهر يوما فهي مرزمة ... قد ساعدتها على التحنان أظآر

ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار

يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر وللعيش إحلاء وإمرار

السليقة البيانية ألهمت الخنساء هذه الخصوصيات في أداء تجربتها الحزينة، فأسكبت حزنها على هذه الصورة الماثلة في الناقة التي فقدت ولدها، ثم خدعت فصنع لها ولد من جلد، فأخذت تطوف حوله في حنين دافق يعلو ويهبط، وهناك نوقف يحاوبنها التحنان، فيشجيها ذلك الترجيع فتحمي وتندفع، إذا غفلت هذه الناقة قليلًا رعت، فإذا ما تذكرت حركها الحزن حركة طائفة، فتصير لفرط هذه الحركة كأنها الإقبال والإدبار.

علم تقل الخنساء فهي مقبلة مدبرة؛ لأنها أرادت التوكيد وبيان فرط الحركة،

<<  <   >  >>