ودعاها المقام إلى هذه الصورة، كما دعاها إلى هذه الخصائص، فأخبرت عنها بالإقبال، والإدبار لتصف إحساسها بالناقة، وأنها صارت إقبالا وإدبارًا، وكذلك قالت:"إنما هي إقبال وإدبار"، ولم تقل: فما هي إلا إقبال وإدبار لتومئ إلى أن صيرورتها إقبالا، وإدبارا عندها أمر واضح لا إنكار فيه، وتنكير يوما في قولها:"أودى به الدهر يومًا"؛ لأنها أرادت يوما حزينا مليئا بالهم والغم، فهو نوع خاص من أنواع الأيام ينكره حسها.
إذن الحال، أعني المعاناة التي عانتها الخنساء، هو الذي ألهمها هذه الخصائص التي صاغت فيها معاناتها لتكون تلك الصياغة وافية مطابقة.
والحال، في الأمثلة السابقة، هو الذي دعاك إلى التعريف في الرجل، وأن تقول: هو الرجل بدل هو رجل، وهو الذي دعاك إلى أن تقول: سار بهم الطريق بدل ساروا في الطريق، أما مقتضى الحال، فهو الأمر العام الذي يقتضيه الحال كالتعريف، والتنكير أو التقديم أو التجوز في النسبة، أو الحذف أو التشبيه أو غير ذلك من الأحوال المختلفة التي يرد عليها التعبير.... ومطابقة هذا لمقتضى الحال هو ما ترد عليه العبارة كالتعريف الوارد في قولك: هو الرجل، والتنيكر في قولها: يوما، والتجوز في قولها هي إقبال أي هو واحد من آحاد التعريف جاء عليه الكلام، أو واحد من آحاد التنكير إلى آخره، وهذه فروق دقيقة.
قال الخطيب:"ومقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد، ومقام التقديم يباين مقام التأخير، ومقام الذكر يباين مقام الحذف، ومقام القصر يباين مقام خلافه، ومقام الفصل يباين مقام الوصل، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة، وكذلك خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام".
والكلام الذي تتوفر فيه الخصائص المشيرة إلى ألوان المعاني هو الكلام الجيد الممتاز، وترتفع منزلته وتنخفض تبعا لهذه الحالة، فكلما كان الكلام بخصائص تراكيبه أكثر شمولا، واستيعابا للفكر والشعور كان أعلى، وواضح