العلم بطيء الحصول وليست كل الطباع تقبله، والجزء الغالب عليه الوهب من الله لا الكسب، فطائفة من العمر تنقضي في تحصيل متنه وطائفة من العمر ثانية تنقضي في تصوره وأخذه عن الشيوخ وطائفة ثالثة في تحقيقه. ثم بعد ذلك كله فصفة العلم ليست من الصفات المحسوسة الظاهرة كالحسن والقبح، ولا مما يدخله الكمية والمقدار المحسوس ليعرف التفاضل فيه بالذراع والشبر وقياس أحد المطلوبين على الآخر، ولا الدال على صفة العلم وهو البيان والنطق ظاهراً مكشوفاً لكل احد، كالشجاعة التي يعرف بها القوى من الضعيف بالافتراس والإلقاء على الأرض، وكالإجادة في المصنوعات المرئية المشاهدة، بل صفة العلم من الصفات النفسانية والكمالات الحاصلة بقوة النفس الناطقة والقوى الباطنة فهي قابلة للجحد والإنكار والمدافعة والتغطية عليها عند أهلها، وقابلة أيضاً لأن يدخل فيها غير أهلها بالتلبيس والتصنع والتمويه والجاه.
ويعين على خفائها وجهل الناس بمكانها من صاحبها وقبولها للتصنع والتمويه أن للعلم مستدع لفاهمة وحافظة، وقل أن يجتمعا في شخص، وذلك لما أن القوة الحافظة من مقدم الدماغ والقوة الفاهمة مما يلي مؤخر الدماغ في وسطه، ويقدر كمال إحداهما بموادها تنقص الأخرى لتقابل المكانين وان شئت قلت: أن البطن المؤخر من الدماغ محل الاسترجاع والتذكر، والبطن المقدم محل التخيل، ويقدر
كمال إحداهما بموادها تنقص الأخرى لتقابل المكانين. أو لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ والحفظ يستدعي مزيد يبوسة، والجمع بينهما محال كما قاله الإمام فخر الدين الرازي في كتابه المصنف في مناقب الشافعي ناقلاً له عن الحكماء.
وإن من العلماء من له قلم وكتابة وليس له بيان ولا جدل، لأن مزاجه يتغير بالمماراة والمدافعة غضباً أو حياءً ويضيق قلبه انفعالا عن ذلك فيحصل الحبسة في لسانه بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه، أو لعدم دربته ومهارته بالبحث، أو لعيه وحبسته، أو لان في العلم والكتابة استعانة على تشييع القوة النفسانية وضبطها عن التشتت، وهذا مستمد مما ذكره الحكماء في كتبهم من أن