نفوس الكهان لما ضعف استعدادها تشبثت بأمور جزئية تكون مشيعة لها ومانعة من تشتتها، كالسجع ورؤية الماء وسنوح سانح.
ومنهم من له بيان وجدل ولا قلم ولا كتابة له، إما لفصاحته مع عدم وقوفه على حقائق العلوم، وأما لفساد تراكيبه إهمالا واحترازاً وان كان واقفاً على حقائقها. والقلم يضبط العيوب ويكون شاهداً عليه بخلاف العبارة، لإمكان المكابرة والاعتذار فيها وإمكان تغييرها عند المضايقة، وأما لدربته ومهارته في البحث وحسن انتقاله فيه وتغطيته على جهله وقلة مبالته.
وإن من العلماء من يزيد علمه على عقله فلا يحسن الغطاء على مجهولاته ولا الاعتذار عنها، مع أن مجهولات الإنسان أكثر من معلوماته بل لا نسبة لمعلوماته إلى مجهولاته.
ومنهم من يزيد عقله على علمه فيضع الأشياء في حاق مواضعها ويضيف إليها رونقاً وبهاءً وتهويلا وتمويهاً.
وان من العلماء من له صوت لإهماله والبكاء صغيراً لفقر أهله أو لتسليط البكاء
عليه في المهد والمحارج رطبة فيفتح العياط لهواته وتتسع مجاري صوته وتتصلب أوداجه.
ومنهم من لا صوت له لعدم ذلك، ومن لا صوت له مغلوب عاجز عن المباحثة، حتى أن بعض الناس علمه صوته وفخره نغمه، وما أحق هذا المقام بقول القائل:
فقلت لمحمد لما التقينا ... تنكب لا يقطرك الزحام
وإن من العلماء من له علم بلا جاه ولا وجاهة، فلا يمكنه المقاومة ويتلعثم لسانه ويتغير للإجلال، ويدافعه الوهم ويقول فلا يلتفت إليه أو يرد عليه رداً جاهياً تقبله العامة. ولله در القائل:
إذا التقى الخيل في معسكرها ... فكيف حال البعوض في الوسط
والقائل:
حياة بلا مال حياة ذميمة ... وعلم بلا جاه كلام مضيع
ومنهم من له جاه وحاله في ذلك ظاهر لا يحتاج إلى الكلام عليه.
وإذا تقرر لك ذلك كله علمت أن العلم اقبل شيء للخفاء والجحد والتلبيس والتصنع، وكيف الرواج بحرفة مجحودة أو خفية أو يشارك فيها بالتلبيس والتمويه.
(ومنها) أن ما في أيدي الناس إنما هو