للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واسترزاق العلماء بعلمهم فوق استرزاق هؤلاء بحرفتهم صار العلم حرفة من الحرف على ما تقدم، وقاعدة الحرف أن موجوديتها وكثرتها ومهارة أهلها يدور مع التمدن والحضارة، فكلما ازداد القطر تمدناً وحضارة ازدادت الحرف إحكاماً ومهارة، فلذلك لا تجد في القرى من

المصنوعات ما يوجد في المدن ولا في صغير المدن ما يوجد في كبيرها، لما أن رواج الحرف ونفاقها هو سر موجوديتها وإحكامها، لأن الناس لا يضعون سلعهم حيث لا تقبل أو لا تنفق، وكبر المدينة وكثرة أهلها يستلزم النفاق لاحتياج الناس واختلاف أغراضهم وهممهم احتياجاً على البدل والتناوب إلى المصنوعات، واستلزام ذلك الحكم البدلية والنوبة عدم الشعور والخلو واقتضائه للنفاق، لأن توزيع المجموع على المجموع مع الكثرة على البدل والنوبة مستلزم لذلك لا محالة. ومملكة فارس والعجم كانت أكثر تمدناً وحضارة، فلذلك انتشرت العلوم فيها وأحكمت إحكاماً بليغاً إلى حد لا يوجد في غيرها لكثرة ناسها وعظم مملكتها. هذا كله في تبيين أن العلوم كانت صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف.

(وأما الأمر الثاني) وهو أن العلوم الآن خرجت عن كونها صناعة من الصنائع وحرفة من الحرف فذلك أن الحرف والدول لها شباب وهرم ولها عمر طبيعي كأعمار الحيوانات والأمور المعنوية تتراجع وتتناقص عند التناهي كالأمور الحسية، وكنا قد قدمنا أن العلوم اقتضتها الشريعة اقتضاءاً وإن الصدر الأول تشايعوا على إظهار الشريعة ولوازمها وتوابعها فراج العلم والعلماء لذلك، ولا شك أن الدول بعد الخلفاء الأربعة وان كانت فوق عصرنا هذا في الانتظام والسداد أضعافاً مضاعفة لكنها دون عصره صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) وقوله صلى الله عليه وسلم في رواية علي بن الجعد عن حماد عن سعيد بن جمهان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا}.

وخرج البيهقي في دلائل النبوة عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر

نبوة ورحمة وكانتا ملكا عضوضاً

<<  <   >  >>