في مفازة: وقطع مفازة لا يقطعها كل حديد، ولا تذرعها أيدي المطي مثل كل البيد؛ يلوك فيها العارف الحصا خوفا من جفاف فمه، ونشاق ماء حياته ودمه؛ لا يفيد في سلوكها النادم العض على الأصابع، ولا يدري القادم عليها ما الله به صانع؛ لا ينهل فيها الماء المحمول إلا نهلة الطائر، ولا يعلم فيها المنقطع للبس نعله أين يقدم السائر؛ لا يدرك فيها مأمول، ولا يقتل العيس إلا الظلماء والماء فوق ظهورها محمول.
في رمل: ودخل في تلك الرمال فنسفها نسفا، وأوطأها حافرا وخفا؛ ولم يرعه شوامخ تلك الكثبان، ولا لوافح نار الهجير في وجوه الركبان؛ والرمل قد طار شرره، وظهر أثره؛ وسالت في تلك الشعاب أوديته، ولفت في معارف تلك الطرق أرديته؛ وعقدت منه كل عقدة لا تحلها الأنامل، ونسجت من رماله كل شقة لا تفتل خيوطها الأنامل؛ وقد امتنع جانبه فلا يقدر وارد مائه على نهل، ولا يزال يحدث منه عن أبي ذر ويسلكه أبو جهل.
في كثيب: وكم عاجت المطايا على كثيب، وكم عادت على أيمنه وذكرت حاجة كئيب؛ ماجت في الأرض تلك الروادف، ومالت فأمسكتها من الرواجف؛ ونهدت في أعالي بطون تلك الأودية كأنها نهود، ونظمت كاللآليء في أجياد تلك السفوح كأنها عقود؛ وعلت كأنها لتلك المذللة أسنمة، وظلت عن تلك القلل كأنها مسلمة؛ قد امتدت للزلزال أسبابا دون الأوتاد، وعدت من صغار الجبال فكانت لها كالأولاد؛ ودارت نطاقا بذلك الفضاء كأنها مخيمة، وتقاصرت عن مدى الجبال كأنها بغير الثريا مختمة.
في جبل شاهق: وكم دونه من جبل لا يبلغ الطرف أدناه، ولا يقطع النسر المحلق منه إلا دون مناه؛ لا تظن الشمس عليه إلا إكليلا، ولا يرى البدر المعلق في ذاره إلا قنديلا؛ تقع دونه الرياح ظلعا، وتزور النجوم حتى تغدو عيونها حولا ولا تستطيع إليه تطلعا.