[الموقف الدعوي للطفيل بن عمرو مع دوس]
مثال آخر: الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه، فإن قصة إسلامه قصة لطيفة، والمجال لا يتسع لذكر القصة بكاملها، لكن أنا سأقف على موقف في آخر هذه القصة، ألا وهو: أنه بعد إسلامه مباشرة، وبعد أن سمع من الرسول آيات قليلة جداً، وصار مؤمناً بالله عز وجل، وقال: فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن ولا أمراً أعدل منه.
يعني: من كلام الله عز وجل، ثم قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، ثم قال: يا نبي الله! وانظر هنا فـ الطفيل بن عمرو الدوسي ليس من أهل مكة، وإنما هو من قبيلة دوس في اليمن، فيقول: يا نبي الله! إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام.
وتأمل إلى الطفيل، فهو رضي الله عنه لم يكن يعرف في الإسلام شيئاً، وأنا على يقين من أن أي واحد في الحضور، أو أي واحد يسمع هذا الكلام عنده علم أكثر من الذي كان عند الطفيل بن عمرو الدوسي عندما قال هذا الكلام، فهو رضي الله عنه سمع كلمات في الإسلام وبعض الآيات، ونحن قد قرأنا القرآن مرات ومرات، وقرأنا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الصلاة والصوم والزكاة وأحكام كثيرة، فهل تحركنا مثلما تحرك الطفيل بن عمرو الدوسي؟ فرق كبير جداً بين الطفيل بن عمرو الدوسي بعلمه المحدود في ذلك الوقت، ولكن الحمية العالية جداً لنشر هذا الدين، وبين من عنده علم عظيم وكبير، ولكن لا ينقله ولا يتحرك به إلى من حوله من الناس، فرق عظيم جداً بمجرد أن شعر الطفيل بن عمرو الدوسي بحلاوة هذا الدين، فهو رضي الله عنه يريد أن ينقلها إلى أهله وإلى أحبابه وإلى عشيرته وإلى الناس أجمعين، ولا تتحمل نفسه أن ينفرد بهذا الخير وحده، ولكن يريد أن يدعو الآخرين إلى ما علمه من هذا الدين، يريد أن يعرف الناس أمر الإسلام، وسبحان الله ما أسلم إلا منذ دقائق، لكن أصبح داعية، وفقه حقيقة الدعوة وأهميتها وقيمتها في هذا الدين.
يقول الطفيل رضي الله عنه: فلما نزلت -أي: وصلت بلادي- أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً فقلت: إليك عني يا أبت، فلست مني ولست منك، فاستغرب أبوه وقال: ولم أي بني؟ قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: أن ديني غير دينكم الآن.
والطفيل رضي الله عنه كان سيداً ومطاعاً في قومه، وكان له رأي وحكمة، وأبوه كان يعظم من قدره، ولذلك لما وجد ابنه يقول له: إليك عني، لا أنا منك ولا أنت مني، قال أبوه مباشرة: ديني دينك، ودخل معه في دين الإسلام، فاغتسل ولبس ثيابه وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ومعلوم أن هذه الطريقة ليست الطريقة المثلى للدعوة؛ لأن فيها نوعاً من الحدة الكبيرة والقسوة الشديدة، لكن الحمد لله جاءت بنتيجة، فلما رأى النتيجة مع والده جرب نفس الأسلوب مع زوجته، فجاءت إليه امرأته فقال لها: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟! قال: قلت: فرَّق بيني وبينك الإسلام، فأسلمت.
ثم خرج إلى قومه وقال لهم: إليكم عني، لست منكم ولستم مني، لكن قومه لم يستجيبوا له ورفضوا الدخول في الإسلام، وذلك لأن في طريقته معهم حدة فلم تنفع أن تكون هذه طريقة دعوة، لأنه كان ما يزال علمه في الدعوة قليل، وما زال تعليم الإسلام عنده ضعيفاً، لذلك رفضت الناس الدعوة، وجلس يدعو بهذه الحدة والناس ترفض ذلك، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وقال: (يا رسول الله! إن دوساً عصت وأبت، فادع الله عليها).
كلمة قالها من قلبه رضي الله عنه، وهو الذي كان يحب العشيرة ويحب قبيلة دوس، لكن بمجرد أن عرف حلاوة هذا الدين أراد أن ينقلها لقومه، ولما رفض قومه هذه الدعوة انقطعت الرابطة القلبية بينه وبين هؤلاء، وأصبحت الرابطة القلبية التي تربط بين الطفيل وبين الناس هي رابطة الإيمان بالله عز وجل، وهو الذي منذ أيام يتمنى أن يدعوهم إلى الخير الذي هو عليه لحبه لهم، فلما أبوا الإيمان وأصروا على الكفر أصبح يكرههم في الله، إلى درجة أنه يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وظن الناس أنه سيدعو عليهم وقالوا: هلكت دوس؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة، والحريص على كل نفس، والحريص على كل البشر، سواء كان يعرفه أو لم يعرفه، رآه أو لم يره مطلقاً في حياته، يحرص على قوم الطفيل أكثر من حرص الطفيل نفسه على قومه، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم يديه وقال: (اللهم! اهد دوساً وأت بهم، ثم قال للطيفل: ارجع إلى قومك فادعهم)، وبعد ذلك قال له كلمة في منتهى الرحمة: (وارفق بهم)، والظاهر أن الطفيل قد حكى له ماذا عمل مع والده ومع زوجته، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الطريقة لا تنفع مع بقية القوم، فقال: (وارفق بهم)، والرفق بالناس أي: الرحمة بهم، حتى تص