[قبول الصحابة لشروط بيعتي العقبة مقابل تبشيرهم بالجنة]
وتعالوا بنا أيضاً لنرى بيعة العقبة الأولى -وقد تكلمنا عليها بالتفصيل في دروس السيرة- يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه كما جاء في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنا عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء)، وذلك قبل أن يفرض الجهاد، لأن بيعة النساء كانت بيعة بدون جهاد، والجهاد إنما جاء في بيعة العقبة الثانية، وتعالوا لنرى الشروط التي اشترطها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبادة بن الصامت ومن معه من أصحاب بيعة العقبة الأولى، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه: (بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف).
فهذه ستة شروط وأمور بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه، وهي شروط صعبة جداً، وأريد منكم أن تتخيلوا هؤلاء المبايعين الذين دخلوا في الإسلام الآن، ويملي عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الشروط والقيود الشديدة، ومن أولها: عدم الإشراك بالله، وعدم السرقة إلى آخر ما أملاه عليهم عليه الصلاة والسلام، لكن ما هو الثمن إن وفَّوا بذلك؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله؛ إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم).
فهل يا ترى تخلف أحد عن البيعة بعد هذه القيود الصعبة؟ لا، فكلهم قد بايعوا، نعم الشروط كانت صعبة لكن الثمن هو الجنة، فهذا هو المفهوم عن الجنة لدى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولننظر في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت أصعب وأصعب، فهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحكي قصة بيعة العقبة الثانية كما جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فيقول رضي الله عنه وعن أبيه: (قلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟ قال: تبايعوني على)، وانتبه! فالرسول صلى الله عليه وسلم يصعب عليهم الأمور أكثر وأكثر، أكثر من السنة الماضية، لأن هؤلاء هم الدعامة التي ستقوم عليها الحكومة الإسلامية بعد ذلك، ولا بد أن يكونوا فاهمين جيداً لتبعات الإيمان، ولا بد أن يفهموا بماذا سيضحون وماذا سيكسبون؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم الحقيقة بمنتهى الصراحة وبمنتهى الوضوح، قال: (تبايعوني على: السمع والطاعة)، تذكرون محاضرة: الصحابة والعمل، وتذكرون كلمة السمع والطاعة؟ حيث قالوا: (سمعنا وأطعنا)، وليس السمع والطاعة فقط، بل الأمر أصعب من ذلك: (السمع والطاعة في النشاط والكسل)، فالسمع والطاعة في النشاط ممكن، وخاصة عندما يكون الإنسان متحمساً جداً لعمل الخير، فقد تأتيه ساعات هو متحمس فيها للصلاة في المسجد، لكن عندما يكون كسلان أو مرهقاً من العمل أو غيره فإنه يؤدي صلاة الجماعة في المسجد جماعة، وهذا هو السمع والطاعة؛ لأنه أمرك بالصلاة في الجماعة في المسجد؛ فتصلي جماعة في المسجد.
أيضاً عندك حمية للجهاد في سبيل الله وأنت في منتهى النشاط، وفي أوقات أخرى قد يحصل لك فتور، لكن هذا الفتور ليس مبرراً لعدم الطاعة، وعليه فهذا هو المؤمن الذي يقدر على حمل مسئولية الأمة الإسلامية على كتفيه.
وهذا أول الشروط.
ثانياً: (وعلى النفقة في العسر واليسر)، في اليسر ممكنة، لا، أيضاً في العسر، فإذا كنت فقيراً أو محتاجاً، وعليك كذا وكذا من الأمور، لزمك النفقة في سبيل الله.
ثالثاً: (وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهو أمر صعب أيضاً على النفس.
رابعاً: (وعلى أن تقولوا)، وفي رواية: (وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم)، وهذه في منتهى الصعوبة، لأن شدة المواجهة للدعاة في سبيل الله عز وجل معروفة، لكن هذا ليس مبرراً لمنع الدعوة أو لوقفها.
خامساً: (وعلى أن تنصروني إذا قدمت يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم).
فهذه هي الشروط الخمسة، وهي شروط في منتهى الصعوبة، ويمكن أن يقال على فكر العامة أو الجهلة: هذه شروط تعجيز، وليس من الممكن لأحد يريد أن يستقطب الناس أن يأتي بهذه الشروط الصعبة، لكن هذه هي حقيقة الإسلام، فالإسلام دين يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجهود، ويحتاج إلى أناس تدفع ولا تأخذ، لأن بعض الناس همها أن تأخذ في الأخير، أي: أنها تريد أي شيء في الدنيا لا في الجنة.
إذاً ما هو الثمن؟ وما جزاؤنا إذا عملنا كل هذه الشروط الصعبة وصرفنا كل حياتنا لله عز وجل؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكم الجنة)، كلمة واحدة، فقط، فالشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: (الجنة)، ثم اعلموا أننا سوف نكسب لو عرفنا قيمة الجنة، وعرفنا أن ما ندفعه هو القليل، أربعون كلمة أو مائة كلمة أو خمسة