[مسارعة أبي لبابة إلى التوبة بعد إفشائه لسر رسول الله عند بني قريظة]
تعالوا لنرى موقفاً يوضح لنا هذه الصورة السريعة في التوبة إلى الله عز وجل: قصة أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وأرضاه، وذلك عندما خانت ونقضت بنو قريظة العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -في غزوة الخندق- قرر أن يذهب إليها ويحاصرها، وبالفعل حاصر بني قريظة خمسة وعشرين ليلة متصلة حتى أصابهم اليأس والفزع، فطلبت بنو قريظة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم رجلاً ليتفاوض معهم، بل واختاروا هم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وأرضاه، لأنه كان حليفاً لهم في الجاهلية، وهو من قبيلة الأوس من الأنصار، ولظنهم أنه سيشفق عليهم ويرحمهم، بل وسيشفع لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم.
بينما الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد عزم على أن يقتل بني قريظة جميعاً؛ لأنهم أقدموا على خيانة عظيمة جداً، إذ كانوا سيدخلون قريشاً إلى المدينة ليستأصلوا كل من فيها، فكان الجزاء من جنس العمل، لكن عندما طلبوا أبا لبابة من أجل أن يذهب إليهم للتفاوض معهم نبهه الرسول ألا يخبرهم بقراره لأنهم لو عرفوا القرار فإنهم لن يفتحوا الأسوار وسيضطر المسلمون لمحاصرتهم لفترة طويلة، ومعلوم أن حصون بني قريظة كانت حصوناً كبيرة جداً، وفيها الغذاء والماء، ويمكن أن يطول الحصار شهراً وشهرين، بل شهوراً، فذهب أبو لبابة رضي الله عه وأرضاه إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وأخذت النساء والصبيان في البكاء، فرق لهم عندما رأى ذلك الموقف، فقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم، لكنه أشار إلى حلقه، يعني: أن جزاءهم الذبح، وكأنه يقول لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عازم على ذبحكم، وهنا أفشى سر الرسول صلى الله عليه وسلم، وخان العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه جريمة كبرى جداً، وتأمل هنا أيضاً: فهذا الرجل من الأنصار، ومن الصحابة الثابتين في الإسلام، والعظماء في التاريخ الإسلامي، وله تاريخ فيما سبق وفيما لحق، لكن سبحان الله فإن النفس ضعيفة، فهو قد أخطأ في لحظة ووقع فيما قد لا يقع فيه كثير من المسلمين.
يقول أبو لبابة رضي الله عنه: فوالله مازالت قدماي من مكانهما حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله، وهنا عرف أنه قد أذنب ذنباً كبير جداً، لكن ما هو الحل؟ التوبة من قريب، فانطلق أبو لبابة رضي الله عنه مباشرة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذهب إلى مسجد رسول الله صلى الله وربط نفسه في عمود من أعمدة المسجد وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت، يعني: أنه ربط نفسه في سارية من سواري المسجد، وقرر أنه لا يفك نفسه حتى يفكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكان من الممكن أن يكتم هذا الخبر، لأنه لا أحد يعرف هذا الأمر غير اليهود، لكنه عرف أنه قد ارتكب ذنباً عظيماً، وأنه لابد عليه أن يتوب من هذا الذنب، ولأنه علم أن فرصته في التوبة هي في الدنيا، ولو مات قبل أن يتوب الله عليه لذهبت الفرصة، ولذلك قيل أنه قد نزل قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:٢٧].
وعندما وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أن أبا لبابة قد عمل هذا العمل، وأنه رضي الله عنه قد ربط نفسه في إحدى سواري المسجد، وأقسم على أن لا يبرح هذا المكان حتى يتوب الله عليه، ومع هذا العقاب الشديد لم يفكر رضي الله عنه أبداً في صورته أمام الناس، ولم يشغله ذلك، في هذا الوقت الذي أصبح مفضوح الذنب أمام الناس، بل ولم يكن همه صورته حتى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يهمه الآن الأعمال التي انقطع عنها، بل كان همه الأعظم أن يتوب الله عز وجل عليه، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما وصله خبره:(أما إنه لو جاءني لاستغفرت له)، رحمة مهداة صلى الله عليه وسلم، أي: لو كان جاء إليَّ قبل أن يربط نفسه لسامحته ولاستغفرت له، لكن مادام أقسم أنه لن يفك نفسه حتى يتوب الله عليه، فلن أستطيع أن أذهب إليه حتى تنزل التوبة من الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم:(فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه)، يعني: ما دام أنه ربط نفسه، وقد ظل أبو لبابة محبوساً بالقيد لمدة ستة أيام متوالية، وامرأته في وقت كل صلاة تفك القيد عنه حتى يصلي، ثم تقوم بإعادة القيد عليه ألم شديد في النفس، وأوبة سريعة إلى الله عز وجل، وتوبة صادقة من ذنب كبير، وبعد مضي الستة الأيام نزلت توبة الله على أبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وأرضاه، نزلت التوبة على رسول الله صلى عليه وسلم وهو في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، تقول أم سل