[الثقة بالله عند الصحابة ومدى مسارعتهم إلى فعل الأوامر وترك النواهي]
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمع الدرس السادس من دروس: كن صحابياً، وقد تكلمنا في الدرسين السابقين عن علامتين مهمتين جداً من علامات طريق الصحابة، وهما علامتان في منتهى الأهمية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو أن طريق الصحابة مرتكز على مثلث مهم جداً له ثلاثة أضلاع: الأول: الإخلاص، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة قبل الماضية: الصحابة والإخلاص.
الثاني: العلم، وقد تكلمنا عنه في المحاضرة الماضية: الصحابة والعلم.
الثالث: الذي سنتكلم عنه اليوم إن شاء الله: الصحابة والعمل.
هناك فرق هائل جداً بين جيل الصحابة وبين من أتى بعدهم، وهذا الفارق هو فارق العمل، فطريقة الصحابة في تلقي الكتاب والسنة كانت مختلفة جداً عن طريقة معظم اللاحقين بعد ذلك، فالصحابة كانوا يتلقون الكتاب والسنة بهدف التطبيق، وكانوا يسمعون بهدف الطاعة، وهذا مبدأ جميل جداً، كانوا مستشعرين قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥].
والصحابة كانوا كمثل المريض الذي يتلقى الدواء من الطبيب، أو كمريض ينصحه الطبيب بإجراء عملية، وهو يقول له: أنا سأعمل لك عملية وأفتح فيها بطنك، وستتعطل من عملك، وستدفع ألفاً أو ألفين أو ثلاثة أو عشرة، والمريض يسمع ويطيع، فيضحي بالألم، ويضحي بالمال, ويضحي بالوقت حتى تنتهي العملية، لماذا؟ لأنه يعرف أن مصلحته في إجراء العملية، ولأنه يثق في هذا الطبيب، ومسألة الثقة هذه مهمة جداً، فقد كان الصحابة مثل الجندي في ميدان المعركة وفي أرض العدو ينتظر أمراً من الأوامر؛ ليوضح له كيف يتحرك؛ لأنه لا يستطيع التحرك بغير هذا الأمر، فيخشى أن يقع في مهلكة، أو يدخل في كارثة، أو تصيبه مصيبة من مصائب الزمان والمكان.
لكن: هل الجندي الذي في ميدان المعركة لا يعرف أين يمشي يميناً أم يساراً، فهو منتظر للأمر من القائد، هل يتلقى الأوامر على التراخي؟ أبداً، فالجندي في هذه الظروف متلهف للأمر الذي يوصله إلى بر الأمان، فهو يثق بقائده، ولذلك يسمع منه دون جدل ولا نقاش، إلا فقط للفهم، لكنه يعرف أن القائد يريد مصلحته ومصلحة الجيش كاملاً.
وكذلك الصحابي وكل مؤمن فطن ذكي يتلهف لأمر الله عز وجل في أي قضية من القضايا، في أي أمر من الأمور؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل يريد به الخير، فهو يريد أن يعلم ماذا يريد الله عز وجل منه في هذه النقطة؟ إن علم أن الله عز وجل راضٍ عن ذلك فعل ما أمره الله به وهو مطمئن، بل سارع في فعله، وإن علم أن الله لا يرضى عن ذلك تركه، بل بالغ في الابتعاد عنه.
إذاً: فالمسألة مسألة ثقة، فيا تُرى هل أنت مطمئن إلى أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به أنه هو الخير لك وللأرض كلها، أم عندك شك في ذلك؟ لأجل هذا كان عند الصحابة حساسية مفرطة لكل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى، وأيضاً كان هذا الأمر من أهم الأمور التي تميز بها الصحابة الكرام، فقد فقهوا الحقيقة القرآنية المهمة التي تقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:٥٤].
فهذا فارق هائل جداً بين جيل الصحابة والأجيال التالية، فالذي خلق لا بد أن يأمر، والذي خلق لا بد أن يحكم، والذي خلق يعرف ما ينفع المخلوق وما يضره؛ لأجل هذا الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦]، وانتبه معي لكل كلمة، فليس لدينا اختيار ما دام أننا قد عرفنا أن هذا أمر ربنا سبحانه وتعالى، أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من التنفيذ، حتى لو كان عكس رغبتنا، وعكس تفكيرنا، وعكس تفكير الغرب والشرق، وعكس القانون الدولي، وعكس التقاليد، فليس لنا فيه أصلاً أي اختيار.
وفي بعض الأحيان قد يكون الموضوع صعباً على النفس، بل وقد يكون فيه فتنة؛ لأجل هذا بين الله سبحانه وتعالى أنه لن يقدر على تنفيذ هذه الأوامر إلا المؤمن والمؤمنة، فالمؤمن والمؤمنة هما اللذان لديهما ثقة كاملة في الله سبحانه وتعالى، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي سيخالف سيخسر خسارة عظيمة جداً، سيضيع ويشقى في الآخرة: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:٣٦].