إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس مجموعة: كن صحابياً، وسيكون حديثنا -بمشيئة الله تعالى- عن الصحابة والتوبة، فالصحابة هم أفضل الأجيال على الإطلاق، جاء ذلك تصريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:(خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، والأحاديث في هذا الأمر أكثر من أن تحصى، أثبتت الخيرية لهذا الجيل، وأنه أفضل من كل أجيال الأرض، ومع ذلك فالصحابة بشر ليسوا بمعصومين من الخطأ، بل كانوا أحياناً يخطئون أخطاء كبيرة جداً، والإنسان فعلاً قد لا يتخيل أن الصحابي يمكن أن يخطئ مثل هذا الخطأ، لكن حدث ذلك، لأنهم بشر، لكن كانوا يتوبون من هذه الأخطاء.
والحقيقة أنه قد أخطأ بعض الناس في المبالغة الشديدة في أحوال الصحابة، ونقلوا عنهم القصص العجيبة الضعيفة جداً، بل أحياناً والموضوعة، والتي تظهرهم بصورة ملائكية، وترفعهم فوق صور البشر، والصحابة لا يحتاجون إلى المبالغة حتى يعظموا، وإنما يكفي أن تنقل الصورة الحقيقة عنهم، وفي هذا كل التعظيم لهذا الجيل، لأنه كان جيلاً فريداً وعظيماً ومتميزاً، لكن المبالغة فيه خسارة كبيرة جداً، لأنها تصيب اللاحقين باليأس من إمكانية الوصول إلى مثل هذه الصورة الفريدة.
وسأذكر هنا حكاية جاءت في أحد الكتب، لرجل ليس بصحابي، تقول هذه القصة: رأيت بدوياً بمكة يقول: كنت بالبادية، وإذا بغلام حاف مكشوف الرأس، ليس معه زاد ولا ركوة ولا عصا، فقلت في نفسي: أدرك هذا الفتى، فإن كان جائعاً أطعمته، وإن كان عطشان أسقيته، فبادرت إليه حتى ما بقي بيني وبينه إلا مقدار ذراع، فذهب عني حتى غاب عن عيني، وهذا أول شيء، فالغلام الصغير قد طار، قال: فقلت: هذا شيطان، فإذا به ينادي فيقول: لا، بل سكران، أي: أن هذا الغلام يرد عليه من بعيد فيقول له: لا، بل سكران، قال: فنادينه يا هذا، وسألته بالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق إلا وقف، فقال: أتعبتني وأتعبت نفسك، فقلت له: رأيتك وحدك فأردت خدمتك، فقال: من يكن الله معه كيف يكون وحده! فقلت له: ما أرى معك زاداً! فقال لي: إذا جعت -تأمل هذه المبالغة غير المقبولة- فذكره زادي، وإن عطشت فمشاهدته سؤالي ومرادي، يعني: أن الرجل لا يأكل ولا يشرب، فقلت له: أنا جائع فأطعمني، أي: إذا كنت لا تجوع فتأكل فأنا جائع فأطعمني! فقال: أولم تؤمن بكرامة الأولياء، فقلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال: فضرب بيده الأرض وكانت أرض رمل، ثم قبض قبضة منها وقال: كل يا مخدوع، فإذا به سويق ألذ ما يكون، والسويق هو: الدقيق الناعم، أي: أنه لقي خبزاً طعمه لذيذ جداً، فقلت: ما ألذه، فقال لي: في البادية عند الأولياء من هذا كثير، يعني: أن هناك أناساً في الصحراء عندهم من هذا الخبز الكثير، فقلت له: اسقني، فركض برجله الأرض فإذا بعين تنبع من الأرض، عين من عسل وماء، جنة على الأرض!! فجلست لأشرب، ثم رفعت رأسي فلم أره، أي: أنه قد اختفى مرة أخرى، فلم أدر كيف غاب؟ ولا إلى أين ذهب؟ فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم إلى الآن لعلي أرى مثل ذلك الولي!! فهذه الحكاية وما شابهها فوق أنها واضحة الافتراء، لها أثر سلبي كبير على طرق التربية والتوجيه، والناس من المستحيل أن تصل إلى مثل هذه الأساطير، فيصيبها نوع من الإحباط، ونحن عند ذلك سنتعامل مع نوعيات ليست من البشر، فليس من الممكن تقليدها، لأننا لم نفهمها ونعرفها، لكن لو فهمنا أن الصحابي بشر يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، يمكن أن يختار الأولى أو خلاف الأولى، حسب الموقف والظرف الذي هو فيه، وساعتئذ نستطيع أن نقلدها، وهنا قد نتساءل، فنقول: أيمكن أن أيحدث هذا مع غلام ولا يحدث ذلك مع أكابر الصحابة؟! فهل إذا أراد أبو بكر -مثلاً- رضي الله عنه أن يأكل يقبض من الرمل قبضة فإذا هي خبز ولحم؟! وهل إذا أراد ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن يشرب أن يضرب الأرض برجليه من أجل يطلع منها عسل وماء؟! وهل إذا أراد عثمان رضي الله عنه أن ينتقل من مكان إلى مكان لبس طاقية الإخفاء وطار كما طار ذلك الغلام!؟ ثم ذهب إلى مكان لا يراه الناس ولا يعرفونه!! فهذا منهج عجيب جداً في التلقي، وأسلوب مبتدع في التربية، ووسيلة من وسائل التعجيز للناس، وليس من ورائها أي حقيقة.
والمعلوم أن الصحابة كانوا بشراً، فإذا أرادوا الأكل بحثوا عنه وجدوا في طلبه، ثم اجتهدوا في طبخه وإعداده، ثم أكلوا بعد ذلك، وإذا أرادوا الشرب حفروا الآبار، وإذا سافروا حملوا معهم ال