تأملوا إلى هذه القصة اللطيفة التي رواها الإمام البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يقول:(بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين)، أي: ذهب إلى البحرين ليأتي بالجزية، والبحرين شرق الجزيرة، وليس المقصود بالبحرين مملكة البحرين حالياً.
وكان يعيش هناك مجوس يدفعون الجزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو عبيدة بن الجراح إلى هناك وأتى بالجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمدينة المنورة لها ضواح كثيرة، وكل ضاحية فيها مسجد يصلي الناس فيه؛ لأن بيوتهم كانت بعيدة عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في وسط المدينة المنورة، فلم يكونوا يصلون الصبح والعشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يصلونها في مساجدهم، ويأتون فقط في الأمور الجامعة، أي: أنه من الممكن أن يأتوا في صلاة الجمعة أو في صلاة العيد أو عندما يكون هناك استنفار لأمر ما، فهم في هذه المرة سمعوا بقدوم أبي عبيدة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده في صلاة الصبح، فلما صلى بهم الفجر انصرف فتعرضوا له، أي: أنهم اعترضوا له في الطريق والرسول صلى الله عليه وسلم خارج من صلاة الصبح، وهو يرى أن هؤلاء الناس ليس من عادتهم أن يصلوا الصبح معه في مسجده، فلما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف سبب مجيئهم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم وقال:(أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء؟ قالوا: أجل يا رسول الله! قال: فأبشروا وأملوا ما يسركم) أي: أنه سوف يعطيهم ما يشاءون، لكن في نفس الوقت سيعطيهم درساً تربوياً في غاية الأهمية، فهو صلى الله عليه وسلم يستغل الفرصة لذلك، ففي البداية ابتسم لهم وقال لهم: أبشروا وأملوا، ومن ثم أعطاهم الدرس فقال صلى الله عليه وسلم:(فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا)، أي: أن الذي يخاف عليهم منه هو الدنيا، ولو بقوا فقراء فإنه لا يخاف عليهم، لكنه يخاف عليهم من المال، ويخاف عليهم من الدنيا، تجد الفقراء مستريحين، لكن الأغنياء غير مستريحين، فتراهم يتساءلون: بكم الدولار في هذا اليوم؟ لماذا الناس تطمع فيِّ؟ فلان هذا يريد أن يكون أفضل مني، فلان أمواله كثرت على أموالي، فكيف أن أنافسه؟ كيف أضربه في السوق؟ كيف أدفعه من أمامي؟ كيف أتملك وأسيطر؟ فالغني لا يستطيع النوم ولا الراحة؛ لأنه في قلق وحيرة وهم، والفقير ينام في الشارع وهو في منتهى الأمان، بينما الملك أو السلطان يحيط به الحراس الكثيرون من الجنود والكتائب ومع ذلك ينام وهو خائف، فهو يتلفت يميناً وشمالاً، يا ترى هل أحد سوف يعمل لي أي شيء؟ هل هناك من يدبر لي أي شيء؟ تجده في خوف وجزع وهم.
فهذه هي الدنيا، وانظر إلى الفقير كيف هو فيها، وانظر إلى الغني كيف هو فيها أيضاً.
إذاً: ما هي السعادة؟ وكيف يمكن أن يكون الشخص سعيداً وهو حيران كل هذه الحيرة، وقلق كل هذا القلق؟ (فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم)، ما الذي سوف يحصل إن بسطت علينا الدنيا؟ تأمل هذا الكلام الحكيم، يقول:(فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم)، فنجد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف علينا من الدنيا، ولم يكن هذا التحذير مرة أو مرتين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان كثيراً جداً؛ فقد كان كلما جلس مع الصحابة خوفهم من أمر الدنيا.