تأمل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدث عن قضية الإخلاص فيقول:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ}[الزمر:٦٥]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ}[الزمر:٦٥] أي: بقية الأنبياء، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ}[الزمر:٦٥] أي: في حالة عدم وجود الإخلاص، {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:٦٥] فالقضية خطيرة جداً، ولذلك وجِّه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومستحيل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشرك بالله عز وجل، لكن هذا لتعظيم الجرم، ولتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، والذي يُشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، والإخلاص أن يكون العمل خالصاً من كل شائبة، والشوائب: هي الشركاء، فلو أنك أشركت مع الله عز وجل آخر بنسبة (٢٥%) مثلاً، فهل تظن أنك ستأخذ (٧٥%) من الأجر ويذهب عنك (٢٥%)، أم أنه سيُحبط العمل جميعه بسبب نسبة بسيطة من الإشراك؟ هنا يقول الله عز وجل:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:٦٥]، وننتقل إلى الحديث الذي يفسّر هذا الموضوع، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أي: أنه يذهب العمل كله.
وحديث آخر يوضح هذا المعنى بصورة أكبر: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم) أي: من أجل الغنيمة، (والرجل يُقاتل للذكر) أي: ليشتهر أمره بين الناس، (والرجل يُقاتل ليُرى مكانه)، أي: ليقال أنه شجاع، (فمن قاتل في سبيل الله؟) أي: أن الأعرابي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء الثلاثة، هل هم من المقاتلين في سبيل الله أم لا؟ فأعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عن جميع هؤلاء الثلاثة، حتى أنه لم يناقش هذه القضية، ثم قال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) سواء هؤلاء الثلاثة السابقين أو غيرهم، فكل هذا ليس في ميزان الله عز وجل وليس في سبيله، وكل هذا إشراك وليس من الإخلاص لله عز وجل، وشيء واحد فقط هو الذي يجعله في سبيل الله، ألا وهو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، والمغنم ليس حراماً، بل إن الله عز وجل شرع في كتابه أن الغنيمة توزع أربعة أخماسها على الجيش، والذكر للخير ليس حراماً، وصفة الشجاعة ليست حراماً، لكن هذا للعبد وهذا للنفس، هذا حظ النفس وليس لله عز وجل، أي: أنك تُقاتل من أجل هذه الأشياء لنفسك وستأخذها في الدنيا، فلا يُحسب عند الله عز وجل، لكن الذي يُقاتل ليرفع كلمة الله عز وجل في الأرض فهو المقاتل في سبيل الله.
وهناك حديث آخر وهو أخطر من الحديث السابق، يوضح المعنى بشكل أوضح وأكبر: روى النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر) فهو خرج في سبيل الله عز وجل يريد الأجر منه، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس الذكر أيضاً، أي: لأجل أن يذكروه ويقولوا: فلان قد قاتل وحارب وانتصر وما إلى ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد شيئين: يريد الأجر، ويريد الذكر، ثم قال:(ما له؟) أي: أن الرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما لهذا الرجل من الأجر، أي: ما مقدار أجره عند الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الخطورة:(لا شيء)، أي: أنه ليس له من الأجر شيء، فأعادها الرجل مستغرباً على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً:(ما له يا رسول الله؟ ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه في كل مرة: لا شيء، لا شيء) ثم قال صلى الله عليه وسلم ليوضح له الصورة: (إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).
كذلك حديث آخر من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه معنى عميق جداً، وأعتقد أننا قد ذكرنا هذا الحديث وتحدثنا عنه في موضوع:(كيفية حفظ القرآن الكريم)، لكن:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:٥٥] فلا بأس بأن نعيده مرة أخرى.
روى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد