ونتناول وجها آخر يتعلق بالأمة وحاجتها إلى هذا النزول المفرق: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)[آل عمران]. بهذا وصف الناس قبل بعثة النبى صلّى الله عليه وسلم؛ كانوا فى ضلال مبين، شمل ضلال العقيدة، والتصورات التى بنيت عليها نحو الكون والإنسان والحياة، كما تشمل الضلال فى السلوك العملى للإنسان والعلاقات بين الناس، ومن مظاهر الضلال فى العقيدة: أن يصنع الإنسان إلهه بيده ثم يسجد له ويعلق حياته به رغبة ورهبة، ومن ضلال تصورات الإنسان نحو الحياة أن جعلوها كل شىء ولا حياة بعدها، وهذا التصور يفسد الحياة حيث يتحول فى هذا التصور الإنسان إلى حيوان مفترس يريد أن يحظى بكل شىء، ولو على حساب الآخرين، وأن يشبع شهواته ولو أفسد حياة غيره، فهذا التصور يقيم حياة الناس على أساس الظلم الذى قال عنه زهير الشاعر الجاهلى:
ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن ضلال التصور للإنسان أن الإنسان يقاس بما يملك من مال وما ينتمى إليه من عصبية، فمن ملك ذلك فهو العظيم فى تصورهم، ومن حرم من شىء من ذلك كان وضيعا، وليس أهلا للمكرمات، فصارت النظرة قائمة على عنصرية ظالمة لا دخل للإنسان فيها. ومن خلال التصور نحو الكون الذى يعيش فيه وبين آياته أن اتخذت بعض هذه الآيات للتقديس والعبادة من دون الله. ومن مظاهر الضلال فى العلاقات أن النفوس التى بنيت على المعانى الفاسدة السابقة صارت نفوسا ضعيفة وشحنت بالعداوة والبغضاء، وصار الطيش والسفه من سمات هذه النفوس، وأصبحت الحروب تشن لأتفه الأسباب، وصار التناصر فى الحروب لا يقوم على الحق وإقامة العدل بل تحكمت فيه العصبية.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... للنائبات على ما قال برهانا
ومن هذا السفه وهذه الحماقة أخذت هذه الحياة صفة الجاهلية:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا