أولا: أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة فى ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن فى عهد عثمان، فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبى صلّى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه، ويتجاوزوه، ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذى تصوره الروايات؛ فهذا مصحف أبى بن كعب روى أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام .. إلخ، وهذا مصحف على كان مرتبا على النزول فأوله «اقرأ» ثم «المدثر» ثم «ق» ثم «المزمل» ثم «تبت» ثم «التكوير»، وهكذا إلى آخر المكى والمدنى.
ثانيا: ما جاء فى المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبى محمد القرشىّ قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة فى السبع، ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى، وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ وقد ذكرنا هذه الرواية بتمامها فى مناقشة القول الأول.
ويناقش هذا القول وهذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف- والتى ذكرناها فى القولين السابقين- كما يناقش دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة فى الترتيب إنما كان قبل علمهم بالتوقيف، أو كان فى خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. كما يمكن مناقشة دليلهم الثانى بأنه خاص بمحل وروده، وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن الكريم كله.
وبعد أن عرضنا للأقوال الثلاثة بأدلتها، ومناقشة هذه الأدلة نذكر ما قاله السيوطى رحمه الله فى هذا فيقول: والذى ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقى وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفى إلا براءة والأنفال، ولا ينبغى أن يستدل بقراءة سور أوّلا على أن ترتيبها كذلك، وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء قبل آل عمران، لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب ولعله فعل ذلك لبيان الجواز.
والإمام الزركشى يرى: أن الخلاف من أساسه لفظى، فقال فى البرهان: والخلاف بين الفريقين- أى القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد، والقائلين بأنه عن توقيف- لفظى لأن القائل بالثانى يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته،