للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من أعلام القرآن عزير]

العلم الثالث هو عزير، وهو أحد صالحي بني إسرائيل، لم تثبت نبوته، قال الله جل وعلا عنه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:٣٠].

نعلم جميعاً أن الرب تبارك وتعالى مقدس عن الصاحبة والولد، منزه فلم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأعظم الجرم أن يدعي مدعٍ أن لله جل وعلا ولداً، قال الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:٨٨ - ٩٠].

وممن زعم لله الولد النصارى واليهود، وكلٌ منهم تعلق بشبهة، والشبهة لا يجلوها إلا العلم.

فنبدأ بالنصارى، وإن كانوا متأخرين، لكن حتى نصل إلى عزير، فالنصارى وقعوا في هذه الشبهة من باب أنهم رأوا أن عيسى عليه السلام لا والد له، فزعموا أنه ابن لله، فرد الله جل وعلا عليهم كما مر معنا في تأملاتنا في سورة آل عمران عند قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩].

والمعنى: لو كان هناك أحد حقيق أن يكون ابناً لله -ولا يوجد أحد كذلك- لكان آدم أولى من عيسى؛ لأنه إذا كانت الشبهة في عيسى أنه وجد من غير والد، فإن آدم وجد من غير والدة ولا والد، وإنما هو أمر من الله: كن فيكون، فرد الله بهذا شبهة النصارى.

وهكذا اليهود فإنهم زعموا أن عزيراً ابن الله، وسبب شبهتهم أنهم يعلمون أن التوراة نزلت على موسى مكتوبة، كما قال الله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف:١٤٥].

فكان علماؤهم يحفظون التوراة، ثم سلط الله عليهم بختنصر فأزهق أرواحهم، وأفنى علماءهم، فقدر أن عزيراً ألهمه الله جل وعلا التوراة، وجعله قادراً على استذكارها، فأملاها عليهم غيباً، وبعد أن أملاها عليهم وقفوا عليها وهي مكتوبة، ووجدوها حيث دفنها العلماء قبل أن يذبحهم بختنصر، فقارنوا بين ما أملاه عليهم عزير، وما هو بين أيديهم من التوراة، فوجدوا عزيراً لم يخرم حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن لله.

هذا سبب قول اليهود وزعمهم أن عزيراً ابن الله، وهذه مشكلة سببها قلة العلم، فإن الإنسان إذا كان لا يعرف إلا جزئية في العلم يتخبط فيه، ويقع في أمور لا يعلمها إلا الله.

فـ عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه قرب قرابته، وأعطاهم مسئوليات، فجاء الخوارج وقالوا: هذا ينافي ما أمر الله به من العدل، وهذا لا يصلح أن يكون خليفة أو أميراً للمؤمنين، ثم قتلوه، ثم نهبوا ماله، ثم قتلوا نجيحاً وفليحاً غلاميه، ثم ضربوا زوجته، وهكذا تطور الأمر لأجل شبهة واحدة، فلم يجدوا عذراً لـ عثمان.

والخوارج الذين بعدهم قتلوا علياً، وقالوا: إن علياً حكم الرجال في دين الله والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:٥٧]، ولم يفهموا هذه الآية لم أنزلت، وفيمَ أنزلت، وأن الله حكم الرجال في الصيد فقال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:٩٥]، ومع ذلك تركوا هذا كله، ورفعوا سيوفهم على أمير المؤمنين وقتلوه، وهذا كله من نقص العلم.

فمن لم يكن ذا علم فمن الصعب أن تحاوره؛ لأنه يتمسك بجزئية واحدة، ولا يوجد جامع بينك وبينه ولا أرضية علمية متسعة حتى تأخذ وتعطي معه.

نعود إلى عزير فنقول: أما عزير فهو عبد صالح، ورد فيه آثار، هذه الآثار لا يوجد بين أيدينا نقل نستطيع أن نجزم أنه صحيح، ولكنها نقول عن وهب بن منبه، وعن ابن عباس، أخذها عن كعب الأحبار، وهكذا نقلت غيرهم من الصحابة والتابعين.

فمنهم من قال: إن عزيراً مر على امرأة تبكي عند قبر بعد أن قتل بختنصر بني إسرائيل، وهي تقول: واكاسياه وامعطياه، فقال لها عزير: من الذي كان يطعمك ويسقيك؟ قالت: الله، قال: فإن الله حي لا يموت، فلا داعي للبكاء، وهو قبل أن يقول لها ذلك كان يبكي على فقد العلماء، فقالت له المرأة: وأنت علام تبكي؟ قال: أبكي على فقد العلماء، قالت: من الذي علم علماء بني إسرائيل، قال: الله.

قالت: فاسأل الله فإن الله حي لا يموت، فسأل الله أن يقذف في قلبه نور التوارة، فأعطاه الله نور التوارة، هذا قول.

ونقل كثير من العلماء أنه هو المقصود بقول الله جل وعلا: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:٢٥٩]، فقالوا: إن القرية هي بيت المقدس بعد أن عاث بختنصر فيها فساداً، فبعد أن هدم منازلها، وأطاح سقوفها، وقتل أهلها مر عليها عزير، فقال -من باب التعجب لا من باب الإنكار-: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:٢٥٩].

وكان قد خرج وعمره أربعون عاماً، وله جارية عمرها عشرون عاماً، فأماته الله، فمكث ميتاً مائة عام بنص القرآن إن كان هو عزير.

فبعد مائة عام أحياه الله جل وعلا ورده كما كان، وعمره أربعون كما هي، فلما رجع إذا بالناس قد تغيروا، فذهب إلى بيته، فوجد الأمة التي تركها وعمرها عشرون عاماً قد أصبح عمرها مائة وعشرين، فقال لها: أين بيت عزير يرحمك الله! أين أنت من عزير! لم يعد أحد يذكر عزيراً هذه الأيام، فقال لها: أنا عزير، قالت: إن عزيراً كان عبداً صالحاً؛ فإن كنت عزيراً فادع الله لي، وكانت قد عميت، فدعا الله لها فبرئت وأبصرت، فلما رأته عرفته؛ لأنه ما تغير فيه شيء.

فأخذته للملأ من بني إسرائيل، وذكروا له التوراة، فسأل الله ودعاه، فأملى عليهم التوراة ولم يخرم منها حرفاً، ثم قال لهم: إن أبي كان قد أخفى التوراة في مكان كذا وكذا عندما خربت بيت المقدس، فذهب بهم إلى الموضع الذي غلب على ظنه أن أباه وضع التوراة فيه، فأخرجها مكتوبة كما هي.

فلما قارنوا بين ما أملاه عزير وبين ما وجدوه مكتوباً وجدوا أن عزيراً لم يخرم منه حرفاً واحداً، فقالوا: ما أعطي عزير هذا إلا لأنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! وقولهم: إنه ابن الله، ذكره الله في سورة التوبة؛ ليغري المؤمنين ويحثهم على قتال أهل الكفر، فذكرها الله ليبين أعظم ما تحلى به أهل الكفر، وهو زعمهم أن لله الولد، وأعظم الفرية أن يأتي أحد فيدعي لله الولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

ولذلك كانوا يقولون في سيرة الإمام أحمد رحمه الله: إنه كان إذا أبصر يهودياً أو نصرانياً في بغداد يغمض عينيه، فيقال له: يا أبا عبد الله لم تفعل ذلك؟ فيقول: والله لا أطيق أن أرى أحداً يزعم أن لله ولداً! وهذه أمر تحلى به الإمام أحمد رحمه الله، لكن لا يوجد دليل على وجوب فعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر اليهود والنصارى وهم يزعمون أن لله الولد، وتعامل معهم، لكن هذا ورع من الإمام نفسه، وليس هدياً نبوياً؛ فرحمة الله على الإمام أحمد.

موضع الشاهد من هذا: أنه كان في الأمم من قبلنا وفي أمتنا من الصالحين من غالى الناس فيهم حتى عبدوهم من دون الله، أو عظموهم من دون الله، ولهذا قال الله بعد هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:٣١].

وأعظم الفرق التي وقعت في هذا بلا شك هم الرافضة وغلوهم الشركي في علي رضي الله عنه، وفي السبطين الحسن والحسين، وهذا أمر مشاهد لا يمكن إنكاره، وكله من باب الغلو في الأشخاص، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغلو في أحدٍ من الخلق كائناً من كان، إنما يحب كل أحدٍ بقدر، ويبغض بقدر، ويتخذ الشرع مناطاً ومعياراً في التعامل مع الخلق كلهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>